السابع والعشرون : كأنه تعالى يقول : يا
محمد ألست قد نزلت عليك : (
فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) [ البقرة : 200 ] .
ثم إن واحدا لو نسبك إلى والدين لغضبت ولأظهرت الإنكار ولبالغت فيه ، حتى قلت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011893ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " فإذا لم تسكت عند التشريك في الولادة ، فكيف سكت عند التشريك في العبادة ؟ بل أظهر الإنكار ، وبالغ في التصريح به ، و (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الثامن والعشرون : كأنه تعالى يقول : يا
محمد ألست قد أنزلت عليك : (
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) [ النحل : 17 ] فحكمت بأن
من سوى بين الإله الخالق وبين الوثن الجماد في المعبودية لا يكون عاقلا بل يكون مجنونا ، ثم إني أقسمت وقلت : (
ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) [ القلم : 3 ] والكفار يقولون : إنك مجنون ، فصرح برد مقالتهم فإنها تفيد براءتي عن عيب الشرك ، وبراءتك عن عيب الجنون و (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
التاسع والعشرون : أن هؤلاء الكفار سموا الأوثان آلهة ، والمشاركة في الاسم لا توجب المشاركة في المعنى ، ألا ترى أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية حقيقة ، ثم القيمية كلها حظ الزوج ؛ لأنه أعلم وأقدر ، ثم من كان أعلم وأقدر كان له كل الحق في القيمية ، فمن لا قدرة له ولا علم البتة كيف يكون له حق في القيومية ، بل ههنا شيء آخر : وهو أن امرأة لو ادعاها رجلان فاصطلحا عليها لا يجوز ، ولو أقام كل واحد منهما بينة على أنها زوجته لم يقض لواحد منهما ، والجارية بين اثنين لا تحل لواحد منهما ، فإذا لم يجز حصول زوجة لزوجين ، ولا أمة بين موليين في حل الوطء فكيف يعقل عابد واحد بين معبودين ؟ بل من جوز أن يصطلح الزوجان على أن تحل الزوجة لأحدهما شهرا ، ثم الثاني شهرا آخر كان كافرا ، فمن جوز الصلح بين الإله والصنم ألا يكون كافرا فكأنه تعالى يقول لرسوله : إن هذه المقالة في غاية القبح فصرح بالإنكار وقل : (
ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الثلاثون : كأنه تعالى يقول : أنسيت أني لما خيرت نساءك حين أنزلت عليك : (
قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ) [ الأحزاب : 28 ] إلى قوله : (
أجرا عظيما ) [ الأحزاب : 29 ] ثم خشيت من
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة أن تختار الدنيا ، فقلت لها : لا تقولي شيئا حتى تستأمري أبويك ، فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي ، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ! فناقصة العقل ما توقفت فيما يخالف رضاي أتتوقف فيما يخالف رضاي وأمري ؟ مع أني جبار السماوات والأرض : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الحادي والثلاثون : كأنه تعالى يقول : يا
محمد ألست أنت الذي قلت :
من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم ، وحتى إن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه : لا تخف السلطان قال : ولم ؟ قال : لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين ، وإما أن يعتقدوا أن السلطان متدين ؛ لأنه يخالطه العالم الزاهد ، أو يعتقدوا أنك فاسق مثله ، وكلاهما خطأ ، فإذا ثبت أنه يجب
البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا
محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك ، لا سيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فأزل عن نفسك هذه التهمة و (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون )
[ ص: 132 ]
الثاني والثلاثون : الحقوق في الشاهد نوعان حق من أنت تحت يده ، وهو مولاك ، وحق من هو تحت يدك وهو الولد ، ثم أجمعنا على أن خدمة المولى مقدمة على تربية الولد ، فإذا كان حق المولى المجازي مقدما ، فبأن يكون حق المولى الحقيقي مقدما كان أولى ، ثم روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014071أن عليا عليه السلام استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التزوج بابنة أبي جهل فضجر ، وقال : لا آذن لا آذن لا آذن إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها ، والله لا يجمع بين بنت عدو الله ، وبنت حبيب الله ، فكأنه تعالى يقول : صرحت هناك بالرد وكررته على سبيل المبالغة رعاية لحق الولد ، فههنا أولى أن تصرح بالرد ، وتكرره رعاية لحق المولى فقل : (
ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) ولا أجمع في القلب بين طاعة الحبيب وطاعة العدو .
الثالث والثلاثون : يا
محمد ألست قلت
لعمر :
رأيت قصرا في الجنة ، فقلت : لمن ؟ فقيل : لفتى من قريش ، فقلت : من هو ؟ فقالوا : عمر فخشيت غيرتك فلم أدخلها حتى قال عمر : أوأغار عليك يا رسول الله ، فكأنه تعالى قال : خشيت غيرة
عمر فما دخلت قصره أفما تخشى غيرتي في أن تدخل قلبك طاعة غيري ، ثم هناك أظهرت الامتناع فههنا أيضا أظهر الامتناع و (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الرابع والثلاثون : أترى أن نعمتي عليك دون نعمة الوالدة ؟ ألم أربك ؟ ألم أخلقك ؟ ألم أرزقك ؟ ألم أعطك الحياة والقدرة والعقل والهداية والتوفيق ؟ ثم حين كنت طفلا عديم العقل وعرفت تربية الأم فلو أخذتك امرأة أجمل وأحسن وأكرم من أمك لأظهرت النفرة ولبكيت ولو أعطتك الثدي لسددت فمك تقول لا أريد غير الأم ؛ لأنها أول المنعم علي ، فههنا أولى أن تظهر النفرة ، فتقول : لا أعبد سوى ربي ؛ لأنه أول منعم علي فقل : (
ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الخامس والثلاثون : نعمة الإطعام دون نعمة العقل والنبوة ، ثم قد عرفت أن الشاة والكلب لا ينسيان نعمة الإطعام ولا يميلان إلى غير من أطعمهما فكيف يليق بالعاقل أن ينسى نعمة الإيجاد والإحسان ؟ فكيف في حق أفضل الخلق : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
السادس والثلاثون :
مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنه يثبت حق الفرقة بواسطة الإعسار بالنفقة فإذا لم تجد من الأنصار تربية حصلت لك حق الفرقة لو كنت متصلا بها ، (
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) فبتقدير أن كنت متصلا بها ، كان يجب أن تنفصل عنها وتتركها ، فكيف وما كنت متصلا بها ؟ أيليق بك أن تقرب الاتصال بها (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
السابع والثلاثون : هؤلاء الكفار لفرط حماقتهم ظنوا أن الكثرة في الإلهية كالكثرة في المال يزيد به الغنى وليس الأمر كذلك بل هو كالكثرة في العيال تزيد به الحاجة فقل : يا
محمد : لي إله واحد أقوم له في الليل وأصوم له في النهار ، ثم بعد لم أتفرغ من قضاء حق ذرة من ذرات نعمه ، فكيف ألتزم عبادة آلهة كثيرة : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون )
الثامن والثلاثون : أن
مريم عليها السلام لما تمثل لها
جبريل عليه السلام : (
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) [ مريم : 18 ] فاستعاذت أن تميل إلى
جبريل دون الله أفتستجيز مع كمال رجوليتك أن تميل إلى الأصنام : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون )
التاسع والثلاثون :
مذهب nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة أنه لا يثبت حق الفرقة بالعجز عن النفقة ولا بالعنة الطارئة يقول : لأنه كان قيما فلا يحسن الإعراض عنه مع أنه تعيب ، فالحق سبحانه يقول : كنت قيما ولم أتعيب ، فكيف يجوز الإعراض عني : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الأربعون : هؤلاء الكفار كانوا معترفين بأن الله خالقهم : (
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] وقال في موضع آخر : (
أروني ماذا خلقوا من الأرض ) [ فاطر : 40 ] فكأنه تعالى يقول :
[ ص: 133 ] هذه الشركة إما أن تكون مزارعة وذلك باطل ؛ لأن البذر مني والتربية والسقي مني ، والحفظ مني ، فأي شيء للصنم ، أو شركة الوجوه وذلك أيضا باطل أترى أن الصنم أكثر شهرة وظهورا مني ، أو شركة الأبدان وذلك أيضا باطل ؛ لأن ذلك يستدعي الجنسية ، أو شركة العنان ، وذلك أيضا باطل ؛ لأنه لا بد فيه من نصاب فما نصاب الأصنام ، أو يقول : ليس هذه من باب الشركة لكن الصنم يأخذ بالتغلب نصيبا من الملك ، فكأن الرب يقول : ما أشد جهلكم ، إن هذا الصنم أكثر عجزا من الذبابة : (
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ) [ الحج : 73 ] فأنا أخلق البذر ثم ألقيه في الأرض ، فالتربية والسقي والحفظ مني ، ثم إن من هو أعجز من الذبابة يأخذ بالقهر والتغلب نصيبا مني ، ما هذا بقول يليق بالعقلاء : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الحادي والأربعون : أنه لا ذرة في عالم المحدثات إلا وهي تدعو العقول إلى معرفة الذات والصفات ، وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام ، ولما كان كل بق وبعوضة داعيا إلى معرفة الذات والصفات قال : (
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ البقرة : 26 ] ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله ، وبحسب تركيبها العجيب تدعو إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله ، فكأنه تعالى يقول : مثل هذا الشيء كيف يستحيا منه ؟ روي أن
عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشا وحمله بنفسه فرآه
علي من بعيد فتنكب
علي عن الطريق فاستقبله
عمر ، وقال له : لم تنكبت عن الطريق ؟ فقال
علي : حتى لا تستحيي ، فقال : وكيف أستحيي من حمل ما هو غذائي ؟ فكأنه تعالى يقول : إذا كان
عمر لا يستحيي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا ، فكيف أستحيي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك ؟ ثم كأنه تعالى يقول : يا
محمد إن
نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار ، فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم ! أفلا تصرح بالرد عليهم : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) وإن
فرعون لما ادعى الإلهية
فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفا فلست أضعف من بعوضة
نمروذ ، وإن كنت قويا فلست أقوى من
جبريل ، فأظهر الإنكار عليهم و (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الثاني والأربعون : كأنه تعالى يقول : يا
محمد : ( قل ) بلسانك : (
لا أعبد ما تعبدون ) واتركه قرضا علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه ، ألا ترى أن النصراني إذا قال : أشهد أن
محمدا رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا ما لم تصرح بالبراءة عن النصرانية ، فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضا أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .
الثالث والأربعون : أن
موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له : (
فقولا له قولا لينا ) [ طه : 44 ] وأما
محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيها على أنه في غاية الرحمة ، فقيل له : (
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .