(
سيصلى نارا ذات لهب ) .
قوله تعالى : (
سيصلى نارا ذات لهب ) وفيه مسائل .
المسألة الأولى : لما أخبر تعالى عن حال
أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه ، أخبر عن حاله في المستقبل بأنه : (
سيصلى نارا ) .
المسألة الثانية : ( سيصلى ) قرئ بفتح الياء وبضمها مخففا ومشددا .
المسألة الثالثة : هذه الآيات تضمنت
الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه :
أحدها : الإخبار عنه بالتباب والخسار ، وقد كان كذلك .
وثانيها : الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده ، وقد كان كذلك ، روى
أبو رافع [ ص: 157 ] مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كنت غلاما
nindex.php?page=showalam&ids=18للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا ، فأسلم
العباس وأسلمت
أم الفضل وأسلمت أنا ، وكان
العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه ، وكان
أبو لهب تخلف عن
بدر ، فبعث مكانه
العاص بن هشام ، ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلا آخر ، فلما جاء الخبر عن واقعة أهل
بدر وجدنا في أنفسنا قوة ، وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة
زمزم ، فكنت جالسا هناك وعندي
أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل
أبو لهب يجر رجليه ، فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره ، فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا
nindex.php?page=showalam&ids=9809أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فقال له
أبو لهب : كيف الخبر يا ابن أخي ؟ فقال : لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا ، وايم الله مع ذلك تأملت الناس ، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض ، ثم برك علي فضربني وكنت رجلا ضعيفا ، فقامت
أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته ، وقالت : تستضعفه أن غاب سيده ، والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة ، وقد صدق فيما قال : فانصرف ذليلا ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ، ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتى أنتن في بيته ، وكانت
قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون ، وقالوا نخشى هذه القرحة ، ثم دفنوه وتركوه ، فهذا معنى قوله : (
ما أغنى عنه ماله وما كسب ) .
وثالثها : الإخبار بأنه من أهل النار ، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر .
المسألة الرابعة : احتج
أهل السنة على وقوع
تكليف ما لا يطاق بأن الله تعالى كلف
أبا لهب بالإيمان ، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار ، فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال ، وأجاب
الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن
أبو لهب لكان لهذا الخبر خبر بأنه آمن ، لا بأنه ما آمن ، وأجاب القاضي عنه فقال : متى قيل لو فعل الله ما أخبر أنه لا يفعله ، فكيف يكون ؟
فجوابنا : أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم .
واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط .
أما الأول : فلأن هذه الآية دالة على أن خبر الله عن عدم إيمانه واقع ، والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين .
وأما الجواب الثاني فأرك من الأول ؛ لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم ، بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقا ، وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية ، فكان
التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفا بالجمع بين الضدين ، وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئا أم بقي ساكتا .