المسألة الرابعة : ذكروا في : ( الفلق ) وجوها :
أحدها : أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال
الزجاج : لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه :
الأول : أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه .
الثاني : أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح .
الثالث : أن الصبح كالبشرى فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم ، فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج ، فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر ، فالحق سبحانه يقول : قل أعوذ برب يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال ، فكيف بعد السؤال .
الرابع : قال بعضهم : إن
يوسف عليه السلام لما ألقي في الجب وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا فلما قرب طلوع الصبح نزل
جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعو ربه فقال : يا
جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا
جبريل وأمن
يوسف فكشف الله ما كان به من الضر ، فلما طاب وقت
يوسف قال
جبريل : وأنا أدعو أيضا وتؤمن أنت ، فسأل
يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل ، وروي أن دعاءه في الجب : يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي
إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
الخامس : لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه
وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول : قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم .
السادس : يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة ؛ لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ، ثم منهم من يخرج من داره مفلسا عريانا لا يلتفت إليه ، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس ، ومنهم من كان ملكا مطاعا فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه ، كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار ، ومن عبد كان مطيعا لربه في الدنيا فصار ملكا مطاعا في العقبى
[ ص: 176 ] يقدم إليه البراق .
السابع : يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة ، فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال : (
يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب ، والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله : (
ناكسو رءوسهم ) [ السجدة : 12 ] والسجود في الصلاة يذكر قوله : (
ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) [ القلم : 42 ] والقعود يذكر قوله : (
وترى كل أمة جاثية ) [ الجاثية : 28 ] فكان العبد يقول : إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال ، وإنما
خص وقت صلاة الصبح ؛ لأن لها مزيد شرف على ما قال : (
إن قرآن الفجر كان مشهودا ) [ الإسراء : 78 ] أي تحضرها ملائكة الليل والنهار .
الثامن : أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال : (
والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : 17 ] .
القول الثاني في الفلق : أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات : (
إن الله فالق الحب والنوى ) [ الأنعام : 95 ] والجبال عن العيون ، وإن من الأحجار لما يتفجر منه الأنهار ، والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد ، والبيض عن الفرخ ، والقلوب عن المعارف ، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب ، بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود ، وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع ، فهذا هو المراد من الفلق ، وهذا التأويل أقرب من وجوه :
أحدها : هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق ، فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال : قل أعوذ برب جميع الممكنات ، ومكون كل المحدثات والمبدعات ، فيكون التعظيم فيه أعظم ، ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى .
وثانيها : أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته يكون موجودا بغيره ، معدوما في حد ذاته ، فإذن كل ممكن فلا بد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه ، فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر ، والتربية إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء ، فكأنه يقول : إنك لست محتاجا إلى حال الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معا في الذات وفي جميع الصفات ، فقوله : (
برب الفلق ) يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات ، وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني .
وثالثها : أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب منه في النور ، فكأنه يقول : أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله : (
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) [ آل عمران : 6 ] .
القول الثالث : أنه واد في جهنم أو جب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض : الفلق والجمع فلقان ، وعن بعض الصحابة أنه قدم
الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش ، فقال : لا أبالي ، أليس من ورائهم الفلق ، فقيل : وما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، وإنما خصه بالذكر ههنا ؛ لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب العظيم الخارج عن حد أوهام الخلق ، ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه ، فكأنه يقول : يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك .