[ ص: 182 ] (
من الجنة والناس ) .
أما
قوله تعالى : ( من الجنة والناس ) ففيه وجوه :
أحدها : كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال : (
شياطين الإنس والجن ) [ الأنعام : 112 ] وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك ، وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فإن زجره السامع يخنس ، ويترك الوسوسة ، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه .
وثانيها : قال قوم : قوله : (
من الجنة والناس ) قسمان مندرجان تحت قوله في : (
صدور الناس ) كأن القدر المشترك بين الجن والإنس ، يسمى إنسانا والإنسان أيضا يسمى إنسانا فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك ، والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم : من أنتم ؟ فقالوا : أناس من الجن ، وأيضا قد سماهم الله رجالا في قوله : (
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) [ الجن : 6 ] فجاز أيضا أن يسميهم ههنا ناسا ، فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن ، فجدير أن يحذر العاقل شره ، وهذا القول ضعيف ؛ لأن جعل الإنسان اسما للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة ؛ لأن الجن سموا جنا لاجتنانهم ، والإنسان إنسانا لظهوره من الإيناس وهو الإبصار ، وقال صاحب الكشاف : من أراد تقرير هذا الوجه ، فالأولى أن يقول : المراد من قوله : (
يوسوس في صدور الناس ) أي في صدور الناس كقوله : (
يوم يدعو الداع ) [ القمر : 6 ] وإذا كان المراد من الناس الناسي ، فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس ؛ لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى .
وثالثها : أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس .
واعلم أن في هذه السورة لطيفة أخرى : وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد ، وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين ، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
انتهى