[ ص: 66 ] (
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
قوله تعالى : (
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
اعلم أن هذا هو النوع السادس من
الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
نافع وابن عامر "وأوصى" بالألف وكذلك هو في مصاحف
المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في "وصى" دليل مبالغة وتكثير .
المسألة الثانية : الضمير في "بها" إلى أي شيء يعود؟ فيه قولان :
الأول : أنه عائد إلى قوله : (
أسلمت لرب العالمين ) على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : (
وجعلها كلمة باقية ) [الزخرف : 28] إلى قوله : (
إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ) [الزخرف : 27] وقوله : (
كلمة باقية ) [الزخرف : 28] دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة .
( القول الثاني ) : أنه عائد إلى الملة في قوله : (
ومن يرغب عن ملة إبراهيم ) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين :
الأول : أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم .
الثاني : أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة ، والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك .
المسألة الثالثة : اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين .
أحدها : أنه تعالى لم يقل وأمر
إبراهيم بنيه بل قال : وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر ، لأن الوصية عند الخوف من الموت ، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم ، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتما بهذا الأمر متشددا فيه ، كان القول إلى قبوله أقرب .
وثانيها : أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك ، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم ، فلما خصهم بذلك في آخر عمره ، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره .
وثالثها : أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحدا منهم بهذه الوصية ، وذلك أيضا يدل على شدة الاهتمام .
ورابعها : أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين ، ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين ، وذلك يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر .
وخامسها : أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى ، وهذا يدل أيضا على شدة الاهتمام بهذا الأمر ، ولما كان
إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة ، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر ، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام ، وأجراها بالرعاية ، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية ، وإلا فمعلوم من
حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبدا إلى الإسلام والدين .
أما قوله : (
ويعقوب ) ففيه قولان :
الأول : وهو الأشهر أنه معطوف على
إبراهيم ، والمعنى أنه وصى
[ ص: 67 ] كوصية
إبراهيم .
والثاني : قرئ "
ويعقوب " بالنصب عطفا على بنيه ، ومعناه : وصى
إبراهيم بنيه ، ونافلته
يعقوب ، أما قوله : (
يابني ) فهو على إضمار القول عند البصريين ، وعند الكوفيين يتعلق بوصى لأنه في معنى القول ، وفي قراءة
أبي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، أن يا بني .
أما قوله : (
اصطفى لكم الدين ) فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره .
أما قوله : (
فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) فالمراد بعثهم على الإسلام ، وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين ، ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأمورا به في كل حال ، لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلا نفسه في الخطر والغرور .