المسألة الخامسة : اختلف الناس في أن
الشهادة المذكورة في قوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس )
[ ص: 92 ] تحصل في الآخرة أو في الدنيا .
فالقول الأول : إنها تقع في الآخرة ، والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان . الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم ، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى
بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله : (
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه :
أولها : أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون ، وهذا باطل عند القاضي ، إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : (
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم ) [ الأنعام : 23- 24 ] .
وثانيها : أن شهادة الأمة
وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء ؟
وجوابه : الحكمة في ذلك
تمييز أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعا ، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ، ولا يقبل شهادة الأمم عليهم ، إظهارا لعدالتهم وكشفا عن فضيلتهم ومنقبتهم .
وثالثها : أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : "
إذا علمت مثل الشمس فاشهد " والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه .
الوجه الثاني : قالوا معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها ، قال
ابن زيد : الأشهاد أربعة :
أولها :
الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد . قال تعالى : (
وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ ق : 21 ] وقال : (
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وقال : (
وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 10- 12 ] .
وثانيها :
شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكيا عن
عيسى - عليه السلام - : (
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ) ، وقال في حق
محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته في هذه الآية : (
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ، وقال : (
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] . وثالثها :
شهادة أمة محمد خاصة ، قال تعالى : (
وجيء بالنبيين والشهداء ) [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : (
ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51 ] . ورابعها :
شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه ، قال تعالى : (
يوم تشهد عليهم ألسنتهم ) [ النور : 24 ] الآية ، وقال : (
اليوم نختم على أفواههم ) [ يس : 65 ] الآية .
القول الثاني : أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا ، وتقريره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو
[ ص: 93 ] الرؤية ، يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب : مشاهدة وشهودا ، والعارف بالشيء : شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا ، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا ، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهدا عليه ، والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة ؛ لأن الله تعالى جعلهم عدولا في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء ، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا ، إنما قلنا : إنه تعالى جعلهم عدولا في الدنيا ؛ لأنه تعالى قال : (
وكذلك جعلناكم أمة ) وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما قلنا : إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهودا في الدنيا ؛ لأنه تعالى قال : (
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطا ترتيب الجزاء على الشرط ، فإذا حصل وصف كونهم وسطا في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ، فإن قيل : تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهدا وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة . قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة ،
والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء لا التحمل ، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا :
الإجماع حجة إلا هذا ، فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضا ، واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهودا في الدنيا ، وهذا لا ينافي كونهم شهودا في القيامة أيضا على الوجه الذي وردت الأخبار به ، فالحاصل أن قوله تعالى : (
لتكونوا شهداء على الناس ) إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث إن قولهم : عند الإجماع يبين للناس الحق ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (
ويكون الرسول عليكم شهيدا ) يعني مؤديا ومبينا ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل ؛ لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ، ثم يشهد بذلك عند الحاكم .
المسألة السادسة : دلت الآية على أن
من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة ، والخوارج ، والروافض ، فإنه لا يعتد به في الإجماع ؛ لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ، ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقول أو فعل ، ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل .
المسألة السابعة : إنما قال : (
شهداء على الناس ) ولم يقل : شهداء للناس؛ لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل ، وذلك عليه لا له في الحال ، فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا ؟ قلنا ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيدا عليهم .