أما
قوله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الوجه هاهنا جملة بدن الإنسان ؛ لأن
الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط ، والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء ؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء ، ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض ، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه .
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : الشطر اسم مشترك يقع على معنيين :
أحدهما : النصف يقال : شطرت الشيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل أجلب جلبا لك شطره أي نصفه .
والثاني : نحوه وتلقاءه وجهته ، واستشهد
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب " الرسالة " على هذا بأبيات أربعة : قال
خفاف بن ندبة :
ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال
ساعدة بن جؤية :
أقول لأم زنباع : أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
وقال
لقيط الإيادي :
وقد أظلكم من شطر شعركم هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر :
[ ص: 103 ] إن العسير بها داء مخامرها فشطرها بصر العينين مسحور
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - : يريد تلقاءها بصر العينين مسحور ، إذا عرفت هذا فنقول : في الآية قولان :
الأول : وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين ، واختيار
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب الرسالة : أن المراد : جهة
المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه ، قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب " تلقاء
المسجد الحرام " .
القول الثاني : وهو قول
الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر هاهنا : وسط المسجد ومنتصفه ؛ لأن الشطر هو النصف ،
والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب ، فلما كان الواجب هو التوجه إلى
الكعبة ، وكانت
الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول : (
فول وجهك شطر المسجد الحرام ) يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة
الكعبة ، قال القاضي : ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان .
الأول : أن
المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ، ولكن لا يكون متوجها إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته .
الثاني : أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة ؛ لأنك إذا قلت فول وجهك شطر
المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة ، أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة ، فإنه لو قيل : فول وجهك
المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع
الكعبة ، فلما قيل : (
فول وجهك شطر المسجد الحرام ) حصلت هذه الفائدة الزائدة ، فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى ، فإن قيل : لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة ، وهي أنه لو قال : فول وجهك
المسجد الحرام ، لزم تكليف ما لا يطاق ؛ لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد ، أما إذا قال :
فول وجهك شطر المسجد الحرام ، أي جانب المسجد ، دخل فيه الحاضرون والغائبون ، قلنا : هذه الفائدة مستفادة من قوله : (
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) فلا يبقى لقوله : شطر
المسجد الحرام زيادة فائدة ، هذا تقرير هذا الوجه ، وفيه إشكال لأنه يصير التقدير : فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف ، وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف ، والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني ، إلا أن اللفظ لا يدل عليه ، وقد اختلفوا في أن المراد من
المسجد الحرام أي شيء هو ؟ يحكى في كتاب " شرح السنة " عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال :
البيت قبلة لأهل المسجد ،
والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول
مالك . وقال آخرون : القبلة هي
الكعبة ، والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011652لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة ، قال
القفال : وقد وردت الأخبار الكثيرة في
صرف القبلة إلى الكعبة ، وفي خبر
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011653ثم صرف إلى الكعبة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة ، وفي خبر
ابن عمر nindex.php?page=hadith&LINKID=16011654في صلاة أهل قباء : فأتاهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول إلى الكعبة ، وفي رواية
ثمامة بن عبد الله بن أنس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011655جاء منادي رسول الله فنادى : إن القبلة حولت إلى الكعبة ، وهكذا عامة الروايات ، وقال آخرون : بل المراد
المسجد الحرام كله ، قالوا : لأن الكلام
[ ص: 104 ] يجب إجراؤه على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع ، وقال آخرون : المراد من
المسجد الحرام الحرم كله ، والدليل عليه قوله تعالى : (
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) [ الإسراء : 1 ] وهو - عليه الصلاة والسلام - إنما أسري به خارج المسجد ، فدل هذا على أن
الحرم كله مسمى
بالمسجد الحرام .