المسألة الرابعة : في
دلائل القبلة : اعلم أن الدلائل إما أرضية وهي الاستدلال بالجبال ، والقرى ، والأنهار ، أو هوائية وهي الاستدلال بالرياح ، أو سماوية وهي النجوم .
أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة ضبطا كليا ، فرب طريق فيه جبل مرتفع لا يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه ، فكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد ولسنا نقدر على استقصاء ذلك ، إذ كل بلد بحكم آخر في ذلك .
أما السماوية فأدلتها منها تقريبية ومنها تحقيقية ، أما التقريبية فقد قالوا : هذه الأدلة إما أن تكون نهارية أو ليلية ، أما النهارية فالشمس فلا بد وأن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أهي بين الحاجبين ، أم هي على العين اليمنى أم اليسرى ، أو تميل إلى الجبين ميلا أكثر من ذلك ؟ فإن الشمس لا تعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع ، وكذلك يراعى موقع الشمس وقت العصر ، وأما
وقت المغرب فإنما يعرف ذلك بموضع الغروب ، وهو أن يعرف بأن الشمس تغرب عن يمين المستقبل ، أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه ، وكذلك يعرف
وقت العشاء الآخرة بموضع الشفق ، ويعرف
وقت الصبح بمشرق الشمس ، فكانت
الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس ، ولكن يختلف حكم ذلك بالشتاء والصيف ، فإن المشارق والمغارب كثيرة ، وكذلك يختلف الحكم في هذا الباب بحسب اختلاف البلاد ، وأما الليلية فهو أن
يستدل على القبلة بالكوكب الذي يقال له الجدي ، فإنه كوكب كالثابت لا تظهر حركته من موضعه ، وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل أو منكبه الأيمن من ظهره ، أو منكبه الأيسر في البلاد الشمالية من
مكة ، وفي البلاد الجنوبية منها ،
كاليمن وما وراءها يقع في مقابلة المستقبل ، فليعلم ذلك وما عرفه ببلده فليعول عليه في الطريق كله ، إلا إذا طال السفر فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس ، وموقع القطر ، وموقع المشارق والمغارب إلى أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلد ، فينبغي أن يسأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك ، فمهما تعلم هذه الأدلة فله أن يعول عليها .
وأما
الطريقة اليقينية وهي الوجوه المذكورة في كتب الهيئة قالوا : سمت القبلة نقطة التقاطع بين دائرة الأفق ، وبين دائرة عظيمة تمر بسمت رءوسنا ورءوس
أهل مكة ، وانحراف القبلة قوس من دائرة الأفق ما بين سمت القبلة دائرة نصف النهار في بلدنا ، وما بين سمت القبلة ومغرب الاعتدال تمام الانحراف ، قالوا : ويحتاج في
معرفة سمت القبلة إلى معرفة طول
مكة وعرضها ، فإن كان طول البلد مساويا لطول
مكة ، وعرضها مخالف لعرض
مكة ، كان سمت قبلتها على خط نصف النهار ، فإن كان البلد شماليا فإلى الجنوب وإن كان جنوبيا فإلى الشمالي ، وأما إذا كان عرض البلد مساويا لعرض
مكة وطوله مخالفا لطولها فقد يظن أن سمت قبلة ذلك البلد على خط الاعتدال وهو ظن خطأ ، وقد يمكن أيضا في البلاد التي أطوالها وعروضها مخالفة لطول
مكة وعرضها ، أن يكون سمت قبلتها مطلع الاعتدال ومغربه ، وإذا كان كذلك فلا بد من استخراج قدر الانحراف ، ولذلك طرق أسهلها أن يعرف الجزء الذي يسامت رءوس
أهل مكة من فلك البروج وهو ( زيح ) من الجوزاء ( وكج ح ) من
[ ص: 107 ] السرطان فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الاسطرلاب المعمول لعرض البلد ، ويعلم على المرئي علامة ، ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقيا عن
مكة كما في بلاد
خراسان والعراق بقدر ما بين الطولين من أجزاء الخجرة ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع ، فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت ذلك الجزء رءوس
أهل مكة ، ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء ، فإذا انتهى ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع فقد سامتت الشمس رءوس
أهل مكة فينصب مقياسا ويخط على ظل المقياس خطا من مركز العمود إلى طرف الظل ، فذلك الخط خط الظل فيبني عليه المحراب ، فهذا هو الكلام في دلائل القبلة .
المسألة الخامسة :
معرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية ؟ ففيه وجهان أصحهما فرض على العين ؛ لأن كل مكلف فهو مأمور بالاستقبال ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب .