أما قوله : (
ولئن اتبعت أهواءهم ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى :
الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع ، والهواء الممدود معروف .
المسألة الثانية : اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب ، قال بعضهم : الرسول ، وقال بعضهم : الرسول وغيره . وقال آخرون : بل غيره ؛ لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب ، وهذا القول الثالث خطأ ؛ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح ، والإلجاء عنه مرتفع ، فهو منهي عنه ، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه ، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به ، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأمورا بشيء ولا منهيا عن شيء وأنه بالاتفاق باطل .
وثانيها : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ، فلما كان ذلك الاحتراز مشروطا بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير .
وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ، ولما حسن من الله
التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قررها في العقول ، والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا .
ورابعا : قوله تعالى في حق الملائكة : (
ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله : (
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ النحل : 50 ] وقال في حق
محمد - صلى الله عليه وسلم - : (
لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] وقد أجمعوا على أنه - عليه الصلاة والسلام - ما أشرك وما مال إليه ، وقال : (
ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ الأحزاب : 1 ] وقال تعالى : (
ودوا لو تدهن فيدهنون ) [ القلم : 9 ] وقال : (
بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] وقوله : (
ولا تكونن من المشركين ) [ الأنعام : 14 ] فثبت بما ذكرنا أنه - عليه الصلاة والسلام - منهي عن ذلك ، وأن غيره أيضا منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره ؟ فنقول فيه وجوه :
أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص .
وثانيها : أن
مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير .
وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه ، وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيها للغير أو توكيدا ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية .
القول الثاني : أن قوله : (
ولئن اتبعت أهواءهم ) ليس المراد منه أنه اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله - عليه الصلاة والسلام - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام ،
[ ص: 116 ] طمعا منه - عليه الصلاة والسلام - في استمالتهم ، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضا ، وآيسه منهم بالكلية على ما قال : (
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) [ الإسراء : 74 ] .
القول الثالث : إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا ، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة .