المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أن
ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) [ آل عمران : 187 ] وقريب منهما قوله تعالى : (
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ) [ البقرة : 174 ] فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيها للناس ، وزاجرة عن كتمانها ، ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى : (
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة : 122 ] وروى
حجاج ، عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011705من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار " .
أما قوله تعالى : (
ما أنزلنا من البينات ) فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتابا ووحيا دون أدلة العقول ، وقوله تعالى : (
والهدى ) يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ؛ لأنا بينا في تفسير قوله تعالى : (
هدى للمتقين ) [ البقرة : 3 ] أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل ، فإن قيل : فقد قال : (
والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ) فعاد إلى الوجه الأول قلنا : الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .
واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة ، فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب ، فكان كتمانه داخلا تحت الآية ، فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد ، فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجا إليها ، ثم تركها أو
كتم شيئا من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم .
المسألة الرابعة : هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوما ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى .
[ ص: 149 ] المسألة الخامسة : من الناس من يحتج بهذه الآيات في
قبول خبر الواحد فقال : دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب ، ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجبا ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : (
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ) [ البقرة : 160 ] فحكم بوقوع البيان بخبرهم ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهيا عن الكتمان ، ومأمورا بالبيان ؛ ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر ؟
قلنا : هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم .