البحث الثاني : في
أعداد الأفلاك ، قالوا : إنها تسعة فقط ، والحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها ، فأما ما عداها ، فلما لم يدل الرصد عليه ، لا جرم ما جزمنا بثبوتها ولا بانتفائها ، وذكر ابن سينا في الشفاء : إنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة ، أو كرات منطبق بعضها على بعض . وأقول : هذا الاحتمال واقع ؛ لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال : إن حركاتها متساوية ، وإذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة ، والمقدمتان ضعيفتان .
[ ص: 164 ] أما المقدمة الأولى : فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة ، لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك ؛ لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة ، والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة ، إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة ، لا شك أن حصة كل يوم ، بل كل سنة ، بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوسا ، وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت .
وأما المقدمة الثانية : وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة ، وهي أيضا ليست يقينية ؛ فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد ، بل أقول : هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات ؛ لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه ، فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية ، فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جدا ، لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا ، وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل .
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت ، وتحت الفلك الأعظم ، واحتجوا من وجوه :
الأول : أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار ، وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم ؛ فإن
بطليموس وجده ( كج نا ) ثم وجد في زمان المأمون ( كج له ) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة ، وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى ، وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ، ويكون كرة الثوابت يدور أيضا قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضا ، وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعا ، فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج ، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب .
وثانيها : أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطرابا شديدا في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات ، حتى إن
بطليموس حكى عن
أبرخس أنه كان شاكا في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة .
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين :
أحدهما قول من يجعل أوج الشمس متحركا فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الاعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج ، فيختلف زمان سير الشمس من أجله .
وثانيهما : قول أهل
الهند والصين وبابل ، وأكثر قدماء علماء
الروم ومصر والشام : أن السبب فيه انتقال فلك البروج ، وارتفاع قطبيه وانحطاطه ، وحكي عن
أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي ، وذكر
باربا الإسكندراني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضا ، وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات ، وقالوا : إن ابتداء الحركة من ( كب ) درجة من الحوت إلى أول الحمل .
وثالثها : أن
بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة ، والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفا ، وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الاستقصاء ، فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه ، وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه .