النوع الخامس : قوله تعالى : (
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ) [ البقرة : 164 ] .
واعلم أن دلالته على الصانع من وجوه :
أحدها : أن تلك
الأجسام وما قام بها من صفات الرقة ، والرطوبة ، والعذوبة لا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى ، قال سبحانه : (
قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) [ الملك : 30 ] .
وثانيها : أنه تعالى جعله سببا لحياة الإنسان ، ولأكثر منافعه ، قال تعالى : (
أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ) [ الواقعة : 68 ] وقال : (
وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) [ الأنبياء : 30 ] .
وثالثها : أنه تعالى كما جعله سببا لحياة الإنسان جعله سببا لرزقه قال تعالى : (
وفي السماء رزقكم وما توعدون ) [ الذاريات : 22 ] .
ورابعها : أن
السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة ، التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام .
وخامسها : أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدر بمقدار النفع من الآيات العظام ، قال تعالى حكاية عن
نوح : (
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ) [ نوح :
[ ص: 179 ] 11 ] .
وسادسها : ما قال : (
فسقناه إلى بلد ميت ) [ فاطر : 9 ] وقال : (
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ) [ الحج : 5 ] فإن قيل : أفتقولون : إن الماء ينزل من السماء على الحقيقة أو من السحاب أو تجوزون ما قاله بعضهم من أن الشمس تؤثر في الأرض فيخرج منها أبخرة متصاعدة ، فإذا وصلت إلى الجو البارد بردت فثقلت فنزلت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز ، فاتصلت فتولدت من اتصال بعض تلك الذرات بالبعض قطرات هي قطرات المطر .
قلنا : بل نقول : إنه ينزل من السماء كما ذكره الله تعالى وهو الصادق في خبره ، وإذا كان قادرا على إمساك الماء في السحاب ، فأي بعد في أن يمسكه في السماء ، فأما قول من يقول : إنه من بحار الأرض فهذا ممكن في نفسه ، لكن القطع به لا يمكن إلا بعد القول بنفي الفاعل المختار ، وقدم العالم ، وذلك كفر ؛ لأنا متى جوزنا الفاعل المختار القادر على خلق الجسم ، فكيف يمكننا مع إمكان هذا القسم أن نقطع بما قالوه .
أما قوله : (
فأحيا به الأرض بعد موتها ) [ الجاثية : 5 ] فاعلم أن هذه الحياة من جهات :
أحدها : ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما مما لولاه لما عاشت دواب الأرض .
وثانيها : أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد .
وثالثها :
أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة ؛ لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات ، بقوله : (
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] .
ورابعها : أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس ؛ لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله .
وخامسها : يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة .
واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز ؛ لأن الحياة لا تصح إلا على من يدرك ويصح أن يعلم ، وكذلك الموت ، إلا أن الجسم إذا صار حيا حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء والنشور والنماء ، فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء ، وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة .
واعلم أن
إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه :
أحدها : نفس الزرع ؛ لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه .
وثانيها : اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى .
وثالثها : اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر .
ورابعها : استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة .