وأما قوله تعالى : (
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) فهذا كالتفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثة :
أولها : السوء ، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك
[ ص: 5 ] المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب .
وثانيها : الفحشاء وهي نوع من السوء ؛ لأنها أقبح أنواعه ، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي .
وثالثها : (
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) وكأنه أقبح أنواع الفحشاء ؛ لأنه
وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : (
ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) فيدخل في الآية أن
الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله .
وههنا مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا ، وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه :
أحدها : اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم : إنها حروف وأصوات خفية ، وقال الفلاسفة : إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا ، فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه ، وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه .
ولقائل أن يقول : صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفا أو لا تشبهها ؟ فإن كان الأول فصور الحروف حروف ، فعاد القول إلى أن هذه الخواطر أصوات وحروف خفية ، وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفا ، لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج ، والعربي لا يتكلم في قلبه إلا بالعربية ، وكذا العجمي ، وتصورات هذه الحروف وتعاقبها وتواليها لا يكون إلا على مطابقة تعاقبها وتواليها في الخارج ، فثبت أنها في أنفسها حروف وأصوات خفية .
وثانيها : أن فاعل هذه الخواطر من هو ؟ أما على أصلنا وهو أن
خالق الحوادث بأسرها هو الله تعالى ، فالأمر ظاهر ، وأما على أصل
المعتزلة فهم لا يقولون بذلك ، وأيضا فلأن المتكلم عندهم من فعل الكلام ، فلو كان فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى ، وفيها ما يكون كذبا وسخفا ، لزم كون الله موصوفا بذلك ، تعالى الله عنه ، ولا يمكن أن يقال : إن فاعلها هو العبد ؛ لأن العبد قد يكره حصول تلك الخواطر ، ويحتال في دفعها عن نفسه مع أنها البتة لا تندفع ، بل ينجر البعض إلى البعض على سبيل الاتصال ، فإذن لا بد ههنا من شيء آخر ، وهو إما الملك وإما الشيطان ، فلعلهما يتكلمان بهذا الكلام في أقصى الدماغ ، وفي أقصى القلب ، حتى إن الإنسان وإن كان في غاية الصمم ، فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات ، ثم إن قلنا بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها ، غير متحيزة البتة ، لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال ، وإن قلنا بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضا أن يقال : إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر ، ولا بعد أيضا أن يقال : إنها لغاية لطافتها تقدر على النفوذ في مضايق باطن البشر ومخارق جسمه وتوصل الكلام إلى أقصى قلبه ودماغه ، ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب ، بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالا لا ينفصل ، فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضايق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها .
وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها ، والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى .
ومما يدل على إثبات
إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى : (
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) [ الأنفال : 12 ] أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم . ويدل عليه من الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011710إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة " وفي الحديث أيضا "
إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطانا وقرن الله به ملكا ، فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر ، والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه " ومن صوفية الفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية ، وفسر
[ ص: 6 ] الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة الشهوانية والغضبية .