أما قوله : (
فما أصبرهم على النار ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في هذه اللفظة قولين :
أحدهما : أن ( ما ) في هذه الآية استفهام التوبيخ معناه : ما الذي أصبرهم وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل ، وهذا قول
عطاء وابن زيد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : وقد يكون أصبر بمعنى صبر وكثيرا ما يكون أفعل بمعنى فعل نحو أكرم وكرم ، وأخبر وخبر .
الثاني : أنه بمعنى التعجب ، وتقريره أن الراضي بموجب الشيء لا بد وأن يكون راضيا بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم ، فلما أقدموا على ما يوجب النار ويقتضي عذاب الله مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بعذاب الله تعالى ، والصابرين عليه ، فلهذا قال تعالى : (
فما أصبرهم على النار ) وهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن .
إذا عرفت هذا ظهر أنه يجب حمل قوله : (
فما أصبرهم على النار ) على حالهم في الدنيا ؛ لأن ذلك وصف لهم في حال التكليف ، وفي حال
اشترائهم الضلالة بالهدى .
وقال
الأصم : المراد أنه إذا قيل لهم (
اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 108 ] فهم يسكتون
[ ص: 26 ] ويصبرون على النار لليأس من الخلاص . وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أن الله تعالى وصفهم بذلك في الحال فصرفه إلى أنهم سيصيرون كذلك خلاف الظاهر .
وثانيها : أن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة .
المسألة الثانية : في حقيقة التعجب وفي الألفاظ الدالة عليه في اللغة .
وههنا بحثان :
البحث الأول : في التعجب : وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء ، فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل ، ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول ، ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ (
بل عجبت ويسخرون ) [ الصافات : 12 ] بضم التاء من " عجبت " ، فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي :
معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام ، وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز
إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى ، لا بالمعنى الذي يضاف إلى العباد .
البحث الثاني : اعلم أن للتعجب صيغتين :
أحدهما : ما أفعله كقوله تعالى : (
فما أصبرهم على النار ) .
والثاني : أفعل به كقوله : (
أسمع بهم وأبصر ) [ مريم : 38 ] .
أما العبارة الأولى : وهي قولهم ؛ ما أصبره ؛ ففيها مذاهب .
القول الأول : وهو اختيار
البصريين أن ( ما ) اسم مبهم يرتفع بالابتداء ، وأحسن فعل وهو خبر المبتدأ وزيدا مفعول وتقديره : شيء حسن زيدا أي صيره حسنا .
واعلم أن هذا القول عند
الكوفيين فاسد ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأول : أنه يصح أن يقال : ما أكرم الله ، وما أعظمه وما أعلمه ، وكذا القول في سائر صفاته ، ويستحيل أن يقال : شيء جعل الله كريما وعظيما وعالما ؛ لأن صفات الله سبحانه وتعالى واجبة لذاته .
فإن قيل : هذه اللفظة إذا أطلقت فيما يجوز عليه الحدوث كان المراد منه الاستعظام مع خفاء سببه وإذا أطلقت على الله تعالى كان المراد منه أحد شطريه وهو الاستعظام فحسب .
قلنا : إذا قلنا ما أعظم الله فكلمة ( ما ) ههنا ليست بمعنى شيء فلا تكون مبتدأ ، ولا يكون أعظم خبرا عنه ، فلا بد من صرفه إلى وجه آخر ، وإذا كان كذلك ثبت أن تفسير هذه الآية بهذه الأشياء في مقام التعجب غير صحيح .
الحجة الثانية : أنه لو كان معنى قولنا : ما أحسن زيدا ؛ شيء حسن زيدا ، لوجب أن يبقى معنى التعجب إذا صرحنا بهذا الكلام ، ومعلوم أنا إذا قلنا : شيء حسن زيدا فإنه لا يبقى فيه معنى التعجب البتة ، بل كان ذلك كالهذيان ، فعلمنا أنه لا يجوز تفسير قولنا : ما أحسن زيدا بقولنا : شيء حسن زيدا .
الحجة الثالثة : أن الذي حسن زيدا والشمس والقمر والعالم هو الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز التعبير عنه بـ " ما " ، وإن جاز ذلك لكان التعبير عنه سبحانه بـ " من " أولى ، فكان ينبغي أنا لو قلنا : من أحسن زيدا أن يبقى معنى التعجب ، ولما لم يبق علمنا فساد ما قالوه .
الحجة الرابعة : أن على التفسير الذي قالوا لا فرق بين قوله : ما أحسن زيدا وبين قوله : زيدا ضرب عمرا فكما أن هذا ليس بتعجب وجب أن يكون الأول كذلك .
[ ص: 27 ] الحجة الخامسة : أن كل صفة ثبتت للشيء فثبوتها له إما أن يكون له من نفسه أو من غيره ، فإذا كان المؤثر في تلك الصفة نفسه أو غيره وعلى التقديرين فشيء صيره حسنا ، إما أن يكون ذلك الشيء هو نفسه أو غيره ، فإذن العلم بأن شيئا صيره حسنا علم ضروري ، والعلم بكونه متعجبا منه غير ضروري ، فإذن لا يجوز تفسير قولنا : ما أحسن زيدا بقولنا شيء حسن زيدا .
الحجة السادسة : أنهم قالوا : المبتدأ لا يجوز أن يكون نكرة فكيف جعلوا ههنا أشد الأشياء تنكيرا مبتدأ ؟ وقالوا : لا يجوز أن يقال : رجل كاتب ؛ لأن كل أحد يعلم أن في الدنيا رجلا كاتبا فلا يكون هذا الكلام مفيدا : وكذا كل أحد يعلم أن شيئا ما هو الذي حسن زيدا فأي فائدة في هذا الإخبار ؟
الحجة السابعة : دخول التصغير الذي هو من خاصية الأسماء في قولك : ما أحسن زيدا ، فإن قيل : جواز دخول التصغير إنما كان ؛ لأن هذا الفعل قد لزم طريقة واحدة ، فصار مشابها للاسم فأخذ خاصيته وهو التصغير قلنا : لا شك أن للفعل ماهية وللتصغير ماهية فهاتان الماهيتان : إما أن يكونا متنافيتين ، أو لا يكونا متنافيتين ، فإن كانتا متنافيتين استحال اجتماعهما في كل المواضع ، فحيث اجتماعهما ههنا علمنا أن هذا ليس بفعل ، وإن لم يكونا متنافيتين وجب صحة تطرق التصغير إلى كل الأفعال ، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم .
الحجة الثامنة : تصحيح هذه اللفظة وإبطال إعلاله فإنك تقول في التعجب : ما أقوم زيدا بتصحيح الواو كما تقول : زيد أقوم من عمرو ، ولو كانت فعلا لكانت واوه ألفا لفتحة ما قبلها ، ألا تراهم يقولون : أقام يقيم ، فإن قيل : هذه اللفظة لما لزمت طريقة واحدة صارت بمنزلة الاسم ، وتمام التقرير أن الإعلال في الأفعال ما كان لعلة كونها فعلا ولا التصحيح في الأسماء لعلة الاسمية ، بل كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة عند وجوب كثرة التصرف ، وعدم الإعلال في الأسماء لعدم التصرف ، وهذا الفعل بمنزلة الاسم في علة التصحيح والامتناع من الإعلال قلنا : لما كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة ، فكان ينبغي أن يجعل خفيفا ثم يترك على خفته ، فإن هذا أقرب إلى العقل .
الحجة التاسعة : أن قولك : " أحسن " لو كان فعلا ، وقولك : " زيدا " مفعولا لجاز الفصل بينهما بالظرف ، فيقال : ما أحسن عندك زيدا ، وما أجمل اليوم عبد الله ، والرواية الظاهرة أن ذلك غير جائز ، فبطل ما ذهبتم إليه .
الحجة العاشرة : أن الأمر لو كان على ما ذكرتم لكان ينبغي أن يجوز التعجب بكل فعل متعد مجردا كان أو مزيدا ، ثلاثيا كان أو رباعيا ، وحيث لم يجز إلا من الثلاثي المجرد دل على فساد هذا القول .
واحتج
البصريون على أن أحسن في قولنا ، ما أحسن زيدا فعل بوجوه :
أولها : بأن أحسن فعل بالاتفاق فنحن على فعليته إلى قيام الدليل الصارف عنه .
وثانيها : أن أحسن مفتوح الآخر ، ولو كان اسما لوجب أن يرتفع إذا كان خبرا لمبتدأ .
وثالثها : الدليل على كونه فعلا اتصال الضمير المنصوب به ، وهو قولك : ما أحسنه .
والجواب عن الأول : أن أحسن كما أنه قد يكون فعلا ، فهو أيضا قد يكون اسما ، حين ما يكون كلمة تفضيل ، وأيضا فقد دللنا بالوجوه الكثيرة على أنه لا يجوز أن يكون فعلا وأنتم ما طلبتمونا إلا بالدلالة .
والجواب عن الثاني : أنا سنذكر العلة في لزوم الفتحة لآخر هذه الكلمة .
[ ص: 28 ] والجواب عن الثالث : أنه منتقض بقولك : لعلي وليتني ، والعجب أن الاستدلال بالتصغير على الاسمية أقوى من الاستدلال بهذا الضمير على الفعلية ، فإذا تركتم ذلك الدليل القوي ، فبأن تتركوا هذا الضعيف أولى ، فهذا جملة الكلام في هذا القول .
القول الثاني : وهو اختيار
الأخفش قال : القياس أن يجعل المذكور بعد كلمة ( ما ) وهو قولك : " أحسن " صلة لما ، ويكون خبر ( ما ) مضمرا . وهذا أيضا ضعيف ؛ لأكثر الوجوه المذكورة ؛ منها أنك لو قلت : الذي أحسن زيدا ليس هو بكلام منتظم ، وقولك : ما أحسن زيدا كلام منتظم وكذا القول في بقية الوجوه .
القول الثالث : وهو اختيار
الفراء : أن كلمة ( ما ) للاستفهام وأفعل اسم ، وهو للتفضيل ، كقولك : زيد أحسن من عمرو ، ومعناه أي شيء أحسن من زيد فهو استفهام تحته إنكار أنه وجد شيء أحسن منه ، كما يقول من أخبر عن علم إنسان فأنكره غيره فيقول هذا المخبر : ومن أعلم من فلان ؟ إظهارا منه ما يدعيه منازعه على خلاف الحق ، وأن لا يمكنه إقامة الدليل عليه ويظهر عجزه في ذلك عند مطالبتي إياه بالدليل ، ثم قولك : أحسن وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعا كما في قولك : ما أحسن زيد إذا استفهمت عن أحسن عضو من أعضائه ، إلا أنه نصب ليقع الفرق بين ذلك الاستفهام وبين هذا ، فإن هناك معنى قولك : ما أحسن زيد ، أي عضو من زيد أحسن ، وفي هذا معناه أي شيء من الموجودات في العالم أحسن من زيد ، وبينهما فرق كما ترى ، واختلاف الحركات موضوع للدلالة على اختلاف المعاني ، والنصب قولنا زيدا أيضا للفرق ؛ لأنه هناك خفض ؛ لأنه أضيف أحسن إليه ، ونصب هنا للفرق ، وأيضا ففي كل تفضيل معنى الفعل ، وفي كل ما فضل عليه غيره معنى المفعول ، فإن معنى قولك : زيد أعلم من عمرو ، أن زيدا جاوز عمرا في العلم ، فجعل هذا المعنى معتبرا عند الحاجة إلى الفرق .
القول الرابع : وهو أيضا قول بعض
الكوفيين قال : إن ( ما ) للاستفهام وأحسن فعل كما يقوله
البصريون ، معناه : أي شيء حسن زيدا ، كأنك تستدل بكمال هذا الحسن على كمال فاعل هذا الحسن ، ثم تقول : إن عقلي لا يحيط بكنه كماله ، فتسأل غيرك أن يشرح لك كماله ، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب .
وأما تحقيق الكلام في أفعل به فسنذكره إن شاء الله في قوله : (
أسمع بهم وأبصر ) [ مريم : 38 ] .