(
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) .
قوله تعالى : (
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) .
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص فقال بعضهم : أراد بقوله : (
ليس البر )
أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى : ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى
[ ص: 31 ] الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام ، وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ؛ لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقا وغربا ، وإنما البر كيت وكيت ، وهذا أشبه بالظاهر ؛ إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال ؛ ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها .
المسألة الثانية :
الأكثرون على أن ( ليس ) فعل ومنهم من أنكره وزعم أنه حرف .
حجة من قال إنها فعل اتصال الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال كقولك : لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين . وهذه الحجة منقوضة بقوله : إنني وليتني ولعل .
وحجة المنكرين :
أولها : أنها لو كانت فعلا لكانت ماضيا ولا يجوز أن تكون فعلا ماضيا ، فلا يجوز أن تكون فعلا . بيان الملازمة أن كل من قال إنه فعل قال إنه فعل ماض ، وبيان أنه لا يجوز أن يكون فعلا ماضيا اتفاق الجمهور على أنه لنفي الحال ، ولو كان ماضيا لكان لنفي الماضي لا لنفي الحال .
وثانيها : أنه يدخل على الفعل ، فنقول : ليس يخرج زيد ، والفعل لا يدخل على الفعل عقلا ونقلا ، وقول من قال : إن ( ليس ) داخل على ضمير القصة والشأن ، وهذه الجملة تفسير لذلك الضمير ؛ ضعيف ، فإنه لو جاز ذلك جاز مثله في ( ما ) .
وثالثها : أن الحرف ( ما ) يظهر معناه في غيره ، وهذه الكلمة كذلك ، فإنك لو قلت : ليس زيد لم يتم الكلام ، بل لا بد وأن تقول ليس زيد قائما .
ورابعها : أن ( ليس ) لو كان فعلا لكان ( ما ) فعلا وهذا باطل ، فذاك باطل ، بيان الملازمة أن ( ليس ) لو كان فعلا لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السلب مقرونا بزمان مخصوص وهو الحال ، وهذا المعنى قائم في ( ما ) فوجب أن يكون ( ما ) فعلا ، فلما لم يكن هذا فعلا فكذا القول ذلك ، أو نذكر هذا المعنى بعبارة أخرى فنقول : ( ليس ) كلمة جامدة وضعت لنفي الحال فأشبهت ( ما ) في نفي الفعلية .
وخامسها : أنك تصل ( ما ) بالأفعال الماضية فتقول : ما أحسن زيدا ، ولا يجوز أن تصل ( ما ) بليس فلا تقول ما ليس زيد يذكرك .
سادسها : أنه على غير أوزان الفعل ؛ لأن فعل غير موجود في أبنية الفعل ، فكان في القول بأنه فعل إثبات ما ليس من أوزان الفعل .
فإن قيل : أصله ليس مثل صيد البعير إلا أنهم خففوه وألزموه التخفيف ؛ لأنه لا يتصرف للزومه حالة واحدة ، وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدل عليها ، وجعلوا البناء الذي خصوه به ماضيا ؛ لأنه أخف الأبنية .
قلنا : هذا كله خلاف الأصل ، فالأصل عدمه ، ولأن الأصل في الفعل التصرف ، فلما منعوه التصرف كان من الواجب أن يبقوه على بنائه الأصلي لئلا يتوالى عليه النقصانات ، فأما أن يجعل منع التصرف الذي هو خلاف الأصل علة لتغير البناء الذي هو أيضا خلاف الأصل ، فذاك فاسد جدا .
وسابعها : ذكر القتيبي أنها كلمة مركبة من الحروف : النافي الذي هو لا ، و : أيس ، أي موجود ، قال : ولذلك يقولون : أخرجه من الليسية إلى الأيسية أي من العدم إلى الوجود ، وأيسته أي وجدته ، وهذا نص في الباب ، قال : وذكر الخليل أن ( ليس ) كلمة جحود معناها : لا أيس ، فطرحت الهمزة استخفافا لكثرة ما يجري في الكلام ، والدليل عليه قول العرب : ائتني به من حيث أيس وليس ، ومعناه : من حيث هو ولا هو .
وثامنها : الاستقراء دل على أن الفعل إنما يوضع لإثبات المصدر ، وهذا إنما يفيد السلب أولا فلا يكون فعلا ، فإن قيل : ينتقض قولكم بقوله : نفى زيدا
[ ص: 32 ] وأعدمه ، قلنا : قولك : نفى زيدا مشتق من النفي فقولك : نفى دل على حصول معنى النفي فكانت الصيغة الفعلية دالة تحقق مصدرها ، فلم يكن السؤال واردا .
وأما القائلون بأن ( ليس ) فعل فقد تكلفوا في الجواب عن الكلام الأول بأن ( ليس ) قد يجيء لنفي الماضي كقولهم : جاءني القوم ليس زيدا .
وعن الثاني أنه منقوض بقولهم : أخذ يفعل كذا .
وعن الثالث : أنه منقوض بسائر الأفعال الناقصة .
وعن الرابع : أن المشابهة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة .
وعن الخامس : أن ذلك إنما امتنع من قبل أن : " ما " ، للحال و ( ليس ) للماضي ، فلا يكون الجمع بينهما .
وعن السادس : أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه ضرورة العمل مما ذكرنا من الدليل .
وعن السابع : أن الليسية اسم فلم قلتم : إن ليس اسم ، وأما قوله : من حيث أيس وليس فلم قلتم : إن المضاف إليه يجب كونه اسما ، وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل .
وعن الثامن : أن " ليس " مشتق من الليسية فهي دالة على تقرير معنى الليسية .
فهذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة وإن كانت هذه الجوابات مختلفة .
المسألة الثالثة :
قرأ حمزة وحفص عن عاصم " ليس البر " بنصب الراء ، والباقون بالرفع ، قال
الواحدي : وكلا القراءتين حسن ؛ لأن اسم ( ليس ) وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسما ، والآخر خبرا .
وحجة من رفع ( البر ) أن اسم ( ليس ) مشبه بالفاعل ، وخبرها بالمفعول ، والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول ، ومن نصب " البر " ذهب إلى أن بعض النحويين قال : " أن " مع صلتها أولى أن تكون اسم " ليس " لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر ، فكان ههنا اجتمع مضمر ومظهر ، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر ، وعلى هذا قرئ في التنزيل قوله : (
فكان عاقبتهما أنهما في النار ) [ الحشر : 12 ] وقوله : (
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا ) [ الأعراف : 82 ] (
ما كان حجتهم إلا أن قالوا ) [ الجاثية : 25 ] والاختيار رفع البر ؛ لأنه روي عن
ابن مسعود أنه قرأ : ( ليس البر بأن ) والباء تدخل في خبر ليس .
المسألة الرابعة :
البر اسم جامع للطاعات ، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى ، ومن هذا بر الوالدين ، قال تعالى : (
إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 13 - 14 ] فجعل البر ضد الفجور وقال : (
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [ المائدة : 2 ] فجعل البر ضد الإثم ، فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان ، وأصله من الاتساع ، ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه .
المسألة الخامسة : قال
القفال : قد قيل في نزول هذه الآية أقوال ، والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، مع أن
اليهود كانوا يستقبلون المغرب ،
والنصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فقال الله تعالى : إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب ، بل
البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور :
أحدها : الإيمان بالله ،
وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أما
اليهود فلقولهم بالتجسيم ولقولهم بأن عزيرا ابن الله ، وأما
النصارى ، فقولهم : المسيح ابن الله ، ولأن
اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل ، على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : (
قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] .
[ ص: 33 ]
وثانيها :
الإيمان باليوم الآخر ،
واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا : (
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] وقالوا : (
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة )
والنصارى أنكروا المعاد الجسماني ، وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر .
وثالثها :
الإيمان بالملائكة ،
واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة
جبريل عليه السلام .
ورابعها :
الإيمان بكتب الله ،
واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك ؛ لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى : (
وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) [ البقرة : 85 ] .
وخامسها :
الإيمان بالنبيين ،
واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء ، على ما قال تعالى : (
ويقتلون النبيين بغير الحق ) [ البقرة : 61 ] وحيث طعنوا في نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم .
وسادسها :
بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه ، واليهود أخلوا بذلك ؛ لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال : (
واشتروا به ثمنا قليلا ) .
وسابعها :
إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها .
وثامنها :
الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوا العهد حيث قال : (
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] وههنا سؤال : وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة برا ثم حكم بأن البر مجموع أمور :
أحدها : الصلاة ، ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض ، ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال :
الأول : أن
قوله : ( ليس البر ) نفي لكمال البر وليس نفيا لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا ، البر اسم لمجموع الخصال الحميدة ، واستقبال القبلة واحد منها ، فلا يكون ذلك تمام البر .
الثاني : أن يكون هذا نفيا لأصل كونه برا ؛ لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك ، بل كان ذلك إثما وفجورا ؛ لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه ، وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر .
الثالث : أن استقبال القبلة لا يكون برا إذا لم يقارنه معرفة الله ، وإنما يكون برا إذا أتي به مع الإيمان وسائر الشرائط ، كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر ، إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله ، فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط ، فإنها لا تكون من أفعال البر ، روي أنه
لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا الاستقبال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين .