المسألة السابعة : اعلم أن الله تعالى اعتبر في تحقق ماهية البر أمورا :
الأول : الإيمان بأمور خمسة :
أولها : الإيمان بالله ،
ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة ، والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها ، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم ، والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ، ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه ، وكونه عالما بكل المعلومات ، قادرا على كل الممكنات حيا مريدا سميعا بصيرا متكلما ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل .
وثانيها :
الإيمان باليوم الآخر ، وهذا الإيمان مفرع على الأول ؛ لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر .
وثالثها :
الإيمان بالملائكة .
ورابعها :
الإيمان بالكتب .
وخامسها : الإيمان بالرسل . وههنا سؤالات :
السؤال الأول : إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب إلا بواسطة صدق الرسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل ؟ .
الجواب : أن الأمر وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا ، إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك ؛ لأن الملك يوجد أولا ، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فالمراعى في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي ، لا ترتيب الاعتبار الذهني .
السؤال الثاني : لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة ؟
الجواب : لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن نصدق به ، فقد دخل تحت الإيمان بالله : معرفته بتوحيده وعدله وحكمته ، ودخل تحت اليوم الآخر : المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد ، إلى سائر ما يتصل بذلك ، ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الكتاب القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم ، وصحة شرائعهم ، فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية .
وتقرير آخر : وهو أن للمكلف مبدأ ووسطا ونهاية ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ،
[ ص: 35 ] وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب ، والموحى إليه وهو الرسول .
السؤال الثالث : لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو إيتاء المال ، والصلاة ، والزكاة .
الجواب : للتنبيه على أن
أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح .