إذا عرفنا سبب النزول فلنرجع إلى التفسير .
أما
قوله تعالى : ( كتب عليكم ) فمعناه : فرض عليكم ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين :
أحدهما : أن قوله تعالى : (
كتب ) يفيد الوجوب في عرف الشرع ، قال تعالى : (
كتب عليكم الصيام ) [ البقرة : 183 ] وقال : (
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ) [ البقرة : 180 ] وقد كانت الوصية واجبة . ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات . وقال عليه السلام : "
ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم " .
والثاني : لفظة ( عليكم ) مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى : (
ولله على الناس حج البيت ) [ آل عمران : 97 ] وأما
القصاص فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ، من قولك : اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله ، قال تعالى (
فارتدا على آثارهما قصصا ) [ الكهف : 64 ] وقال تعالى : (
وقالت لأخته قصيه ) [ القصص : 11 ] أي اتبعي أثره ، وسميت القصة قصة ؛ لأن بالحكاية تساوي المحكي ، وسمي القصاص قصاصا ؛ لأنه يذكر مثل أخبار الناس ، ويسمى المقص مقصا لتعادل جانبيه .
أما قوله تعالى : (
في القتلى ) أي بسبب قتل القتلى ؛ لأن كلمة ( في ) قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011738في النفس المؤمنة مائة من الإبل " إذا عرفت هذا فصار تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى ، فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى ، إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم ، وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضا في صور كثيرة ، وهي إذا
قتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، وفيما إذا
قتل المسلم حربيا أو معاهدا ، وفيما إذا
قتل مسلم مسلما خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه .
[ ص: 42 ] فإن قيل : قولكم : هذه الآية تقتضي وجوب القصاص فيه إشكالان :
الأول : أن القصاص لو وجب لوجب إما على القاتل ، أو على ولي الدم ، أو على ثالث ، والأقسام الثلاثة باطلة ، وإنما قلنا : إنه لا يجب على القاتل ؛ لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وإنما قلنا : إنه غير واجب على ولي الدم ؛ لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك بقوله : (
وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] والثالث أيضا باطل ؛ لأنه يكون أجنبيا عن ذلك القتل والأجنبي عن الشيء لا تعلق له به .
السؤال الثاني : إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية ، وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل البتة ، بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية
التسوية في القتل الذي يكون مشروعا ، وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الآية على كون القتل مشروعا بسبب القتل .
والجواب عن السؤال الأول : من وجهين :
الأول : أن المراد إيجاب
إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجراه ؛ لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود ؛ لأنه من جملة المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه .
والثاني : أنه خطاب مع القاتل والتقدير : يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص ، وذلك ؛ لأن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحد ، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله ولا يقرا ، والفرق أن ذلك حق الآدمي .
وأما الجواب عن السؤال الثاني : فهو أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل ، والتسوية في القتل صفة القتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات ، فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه ، ويتفرع على ما ذكرنا مسائل :
المسألة الأولى : ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة إلى موجب العمد هو القصاص ، وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في أحد قوليه إلى أن موجب العمد إما القصاص وإما الدية ، واحتج
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة بهذه الآية ، ووجه الاستدلال بها في غاية الضعف ؛ لأنه سواء كان المخاطب بهذا الخطاب هو الإمام أو ولي الدم فهو بالاتفاق مشروط بما إذا كان ولي الدم يريد القتل على التعيين ، وعندنا أنه متى كان الأمر كذلك كان القصاص متعينا ، إنما النزاع في أن ولي الدم هل يتمكن من العدول إلى الدية وليس في الآية دلالة على أنه إذا أراد الدية ليس له ذلك .