أما
قوله تعالى : ( فإني قريب ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه ليس المراد من هذا القرب بالجهة والمكان ، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ ، فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين :
المطلوب الأول : في بيان أن هذا القرب ليس قربا بحسب المكان ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه لو كان في المكان مشارا إليه بالحس لكان منقسما ، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد . ولو كان منقسما لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة ، وجزء الشيء غيره ، فلو كان في مكان لكان مفتقرا إلى غيره ، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق ، وذلك في حق الخالق القديم محال ، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان .
والثاني : أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات ، أو غير متناه عن جهة دون جهة ، أو كان متناهيا من كل الجوانب ؛ والأول محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال .
والثاني محال أيضا لهذا الوجه ، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهيا والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه ، فيلزم منه كونه تعالى مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع ، والخصم لا يقول بذلك .
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون متناهيا من كل الجوانب ، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا ، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة .
الثالث : وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بالجهة ، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل ، بل كان يكون قريبا من حملة العرش وبعيدا من غيرهم ، ولكان إذا كان قريبا من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيدا من عمرو الذي هو بالمغرب ، فلما دلت الآية على
كونه تعالى قريبا من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بحسب الجهة ، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم ، أو المراد من هذا القرب : العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى : (
وهو معكم أين ما كنتم ) [ الحديد : 4 ] ، وقال : (
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] ، وقال : (
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [ المجادلة : 7 ] والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلا بالتشبيه ، فقد كان في مشركي العرب وفي
اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه - عليه الصلاة والسلام - فقالوا : أين ربنا ؟ صح أن يكون الجواب : فإني قريب ، وكذلك إن سألوه - عليه الصلاة والسلام - فقالوا : هل يسمع ربنا دعاءنا ؟ صح أن يقول في جوابه : فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه ، وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بإخفائه ؟ صح أن يجيب بقوله : فإني قريب ، وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء ؟ صلح هذا الجواب أيضا ، وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا ؟ صلح أن يجيب بقوله : فإني قريب ، أي : فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم ، فثبت أن هذا الجواب مطابق
[ ص: 83 ] للسؤال على جميع التقديرات .