المسألة الثانية : في المراد بالفتنة ههنا وجوه :
أحدهما : أنها الشرك والكفر ، قالوا : كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
بمكة حتى ذهبوا إلى
الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى
المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك .
وثانيها : قال
أبو مسلم : معنى الفتنة ههنا الجرم ، قال : لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار . فإن قيل :
كيف يقال : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقا ؟
قلنا : الجواب من وجهين :
الأول : أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك ، لأن من قتل فقد زال كفره ، ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر ، فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك .
الجواب الثاني : أن المراد قاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا ، ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه .
أما قوله تعالى : (
ويكون الدين لله ) فهذا يدل على حمل الفتنة على الشرك ، لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة ، والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره ، فصار التقدير كأنه تعالى قال : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام ، وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب
[ ص: 114 ] ويحصل ما يؤدي إلى الثواب ، ونظيره قوله تعالى : (
تقاتلونهم أو يسلمون ) [ الفتح : 16 ] ، وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود .
أما قوله تعالى : (
فإن انتهوا ) فالمراد : فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم ، وهو إما كفرهم أو قتالهم ، فعند ذلك لا يجوز قتالهم ، وهو كقوله تعالى : (
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ الأنفال : 38 ] .