أما قوله تعالى : (
لمن اتقى ) ففيه وجوه :
أحدها : أن
الحاج يرجع مغفورا له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب ، ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق .
وثانيها : أن هذه المغفرة إنما
[ ص: 167 ] تحصل لمن كان متقيا قبل حجه ، كما قال تعالى : (
إنما يتقبل الله من المتقين ) [المائدة : 27] وحقيقته أن
المصر على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر .
وثالثها : أن هذه
المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011861من حج فلم يرفث ولم يفسق " واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال ، والتحقيق أنه لا بد من الكل ، وقال بعض المفسرين : المراد بقوله : (
لمن اتقى ) ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره ؛ لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوما ، وربما صار عمله محبطا ، وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل .
الثاني : أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام ، لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم ، لكن ذاك ليس للإحرام ، لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام ، فسقط هذا الوجه .
أما قوله تعالى : (
واتقوا الله ) فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : (
لمن اتقى ) الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار ، وقد علمت أن
التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات .
فأما قوله : (
واعلموا أنكم إليه تحشرون ) فهو تأكيد للأمر بالتقوى ، وبعث على التشديد فيه ؛ لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة ، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى ، وأما
الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف ، لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور ، والمراد بقوله : (
إليه ) أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه ، ولا يستطيع أحد دفعا عن نفسه ، كما قال تعالى : (
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) [الانفطار : 19] .