المسألة الثانية : تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية ، قالوا إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديدا في الجدل ، ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم ، وإلا لما جاز ذلك ؛ وجوابه ما تقدم في قوله : (
ولا جدال في الحج ) [البقرة : 197] .
الصفة الرابعة : قوله تعالى : (
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام ، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام ، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال : (
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ) ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : (
وإذا تولى ) فيه قولان :
أحدهما : معناه وإذا انصرف من عندك
سعى في الأرض بالفساد ، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين :
أحدهما : ما كان من إتلاف الأموال
بالتخريب والتحريق والنهب ، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات ، منها ما قدمنا أن
الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن ، فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، ومنها أنه لما انصرف من
بدر مر
ببني زهرة وكان بينه وبين
ثقيف خصومة ، فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم .
والوجه الثاني في
تفسير الفساد : أنه كان بعد الانصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين ، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر ، وهذا المعنى يسمى فسادا ، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له : (
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ) [الأعراف : 127] أي يردوا قومك عن دينهم ، ويفسدوا عليهم شريعتهم ، وقال أيضا : (
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) [غافر : 26] وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) [البقرة : 11] ما يقرب من هذا الوجه ، وإنما سمي هذا المعنى فسادا في الأرض لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض ، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء ، قال تعالى : (
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) [محمد : 22] فأخبر أنهم إن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في
[ ص: 171 ] الأرض ، وقطع الأرحام ، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن ، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب ، لأنه تعالى قال : (
ويهلك الحرث والنسل ) والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة .
القول الثاني : في تفسير قوله : (
وإذا تولى ) وإذا صار واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر ، فيهلك الحرث والنسل ، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية ، لأن المقصود بيان نفاقه ، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة ، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد .
المسألة الثانية : قوله : (
سعى في الأرض ) أي اجتهد في إيقاع القتال ، وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس ، ومنه يقال : فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى : (
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) [التوبة : 47] .
المسألة الثالثة : من فسر الفساد بالتخريب قال : إنه تعالى ذكره أولا على سبيل الإجمال ، وهو قوله : (
ليفسد فيها ) ثم ذكره ثانيا على سبيل التفصيل فقال : (
ويهلك الحرث والنسل ) ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال : كما أن الدين الحق أمران ؛ أولهما العلم ، وثانيهما العمل ، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشبهات ، وثانيهما فعل المنكرات ، فههنا ذكر تعالى أولا من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات ، وهو المراد بقوله : (
ليفسد فيها ) ثم ذكر ثانيا إقدامه على المنكرات ، وهو المراد بقوله : (
ويهلك الحرث والنسل ) ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال : سبب نزول الآية أن
الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال : المراد بالحرث الزرع ، وبالنسل تلك الحمر ، والحرث هو ما يكون منه الزرع ، قال تعالى : (
أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه ) [الواقعة : 63] وهو يقع على كل ما يحرث ويرزع من أصناف النبات ، وقيل : إن الحرث هو شق الأرض ، ويقال لما يشق به : محرث ، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب ، والنسل في اللغة : الولد ، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم : نسل ينسله إذا خرج فسقط ، ومنه نسل ريش الطائر ، ووبر البعير ، وشعر الحمار ، إذا خرج فسقط ، والقطعة منها إذا سقطت نسالة ، ومنه قوله تعالى : (
إلى ربهم ينسلون ) [يس : 51] أي يسرعون ، لأنه أسرع الخروج بحدة ، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه ، والناس نسل
آدم ، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج ، وأما من قال : إن سبب نزول الآية : أن
الأخنس بيت على قوم
ثقيف وقتل منهم جمعا ، فالمراد بالحرث : إما النسوان لقوله تعالى : (
نساؤكم حرث لكم ) [البقرة : 223] أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض ، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد ، وأما النسل فالمراد منه الصبيان .
واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه ؛ لأن المراد منها على التفسير الأول إهلاك النبات والحيوان ، وعلى التفسير الثاني إهلاك الحيوان بأصله وفرعه ، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه ، فإذن قوله : (
ويهلك الحرث والنسل ) من الألفاظ الفصيحة جدا الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة (
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [الزخرف : 71] وقال : (
أخرج منها ماءها ومرعاها ) [النازعات : 31] .
[ ص: 172 ] فإن قيل : أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل ، أو تدل على أنه أراد ذلك ؟
قلنا : إن قوله : (
سعى في الأرض ليفسد فيها ) دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك ، ثم قوله : (
ويهلك الحرث والنسل ) إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك ، فإن تقدير الآية هكذا : سعى في الأرض ليفسد فيها ، وسعى ليهلك الحرث والنسل ، وإن جعلناه كلاما مبتدأ منقطعا عن الأول ، دل على وقوع ذلك ، والأول أولى ، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود .
المسألة الرابعة : قرأ بعضهم "ويهلك الحرث والنسل " على أن الفعل للحرث والنسل ، وقرأ
الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو : أبى يأبى ، وروي عنه "ويهلك" على البناء للمفعول .