المسألة الثانية : أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه
سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة
[ ص: 181 ] والسكون ، وهما محدثان ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثا مخلوقا ، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك .
وثانيها : أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان ، فإما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ ، وذلك باطل باتفاق العقلاء ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون شيئا كبيرا ، فيكون أحد جانبيه مغايرا للآخر فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض ، وكل ما كان مركبا ، فإن ذلك المركب يكون مفتقرا في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، فكل مركب هو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد ، فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم ، والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك .
وثالثها : أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتناه ، فيكون مختصا بمقدار معين ، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح ، وتخصيص مخصص ، وكل ما كان كذلك كان فعلا لفاعل مختار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق ، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك .
ورابعها : أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلها قديما أزليا فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر ، وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول : الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهما جسم يجوز عليه الغيبة والحضور ، فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس ، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله .
وخامسها : أن الله تعالى حكى عن
الخليل عليه الصلاة والسلام أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله : (
لا أحب الآفلين ) [الأنعام : 76] ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق
الخليل عليه السلام في ذلك .
سادسها : أن
فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل
موسى عليه السلام فقال : (
وما رب العالمين ) [الشعراء : 23] وطلب منه الماهية والجنس والجوهر ، فلو كان تعالى جسما موصوفا بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل والقدر : فكان جواب
موسى عليه السلام بقوله : (
رب السماوات والأرض ) [الشعراء : 24] (
ربكم ورب آبائكم الأولين ) [الدخان : 8] (
رب المشرق والمغرب ) [الشعراء : 28] خطأ وباطلا ، وهذا يقتضي تخطئة
موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب ، وتصويب
فرعون في قوله : (
إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) [الشعراء : 27] ولما كان كل ذلك باطلا ، علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسما ، وأن يكون في مكان ، ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب .
وسابعها : أنه تعالى قال : (
قل هو الله أحد ) [الإخلاص : 1] والأحد هو الكامل في الوحدانية ، وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين ، فلما كان تعالى أحدا امتنع أن يكون جسما أو متحيزا ، فلما لم يكن جسما ولا متحيزا امتنع عليه المجيء والذهاب ، وأيضا قال تعالى : (
هل تعلم له سميا ) [مريم : 65] أي شبيها ولو كان جسما متحيزا لكان مشابها للأجسام في الجسمية ، إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية ، وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات ، وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات ، وأيضا قال تعالى (
ليس كمثله شيء ) [الشورى : 11] ولو كان جسما لكان مثلا للأجسام .
[ ص: 182 ] وثامنها : لو كان جسما متحيزا لكان مشاركا لسائر الأجسام في عموم الجسمية ، فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفا في خصوص ذاته المخصوصة ، وإما لا يكون ، فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فعموم كونه جسما مغاير لخصوص ذاته المخصوصة ، وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسما كنا قد جعلنا الجسم صفة ، وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة ، وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسما وغير موصوف بكونه جسما ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئا مغايرا للمفهوم من الجسم وغير موصوف به ، وذلك ينفي كونه تعالى جسما ، وأما إن قيل : إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسما لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية ، فحينئذ يكون مثلا لها مطلقا ، وكل ما صح عليها فقد صح عليه ، فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك ، وكل ذلك محال ، فثبت أنه تعالى ليس بجسم ، ولا بمتحيز ، وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه .