المسألة الثالثة : ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر ، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام ، وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي ، أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن
شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة ، فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه ، قالوا : لأن من كان مؤمنا ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي ، ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي ، فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال ، وإما
[ ص: 32 ] أن يقال : إن الطارئ يزيل السابق ، وهذا محال لوجوه :
أحدها : أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارئ ، فليس كون الطارئ مزيلا للسابق أولى من كون السابق دافعا للطارئ ، بل الثاني أولى ؛ لأن الدفع أسهل من الرفع .
وثانيها : أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين ، كان شرط طريان الطارئ زوال السابق ، فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال .
وثالثها : أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارئ ، إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر ، فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر ، فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ، ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع ، وإن ازداد أحدهما على الآخر ، فلنفرض أن السابق أزيد ، فعند طريان الطارئ لا يزول إلا ما يساويه ، فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية ، فيكون ذلك ترجيحا من غير مرجح وهو محال ، لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارئ الزائد ، يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال ، وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارئ دون البعض ، وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحا للمثل من غير مرجح وهو محال ، فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمنا ثم كفر ، فذلك الإيمان السابق ، وإن كنا نظنه إيمانا إلا أنه ما كان عند الله إيمانا ، فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيمانا ، والكفر كفرا ، وهذا هو الذي دلت الآية عليه ، فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة .