" مسألة "
" وأكل لحم الإبل "
هذا هو المعروف في نصه ومذهبه ، وذكر جماعة من أصحابنا رواية أخرى : أنه لا ينقض كسائر اللحوم والأطعمة ؛ لأن
الوضوء منه منسوخ بما روى
جابر قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014593 " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ترك [ ص: 328 ] الوضوء مما مسته النار " رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي . وقال
عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014594الوضوء مما خرج وليس مما دخل " رواه
سعيد في سننه .
أو يكون الوضوء أريد به غسل اليد والفم ، فإنه يسمى وضوءا ، وهو وإن كان مستحبا في جميع الأطعمة لا سيما من الدسم ، فإن لحم الإبل فيه زيادة زهومة وحرارة . كما حمل بعضهم الوضوء من مس الذكر على هذا ؛ لأنه مظنة تلوث اليد بمسه لا سيما من المستجمرين ، أو يحمل على الوضوء للصلاة استحبابا . والصحيح الأول ؛ لما روى
nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014595أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ " قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال : " أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ " قال : " نعم توضأ من لحوم الإبل " قال : " أصلي في مرابض الغنم ؟ " قال : " نعم " قال : " أصلي في مبارك الإبل ؟ " قال : " لا " رواه
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014596سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل فقال : " توضأ منها " . وسئل عن لحوم الغنم فقال : " لا تتوضأ منها " . وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال : " لا تصلوا فيها " ، فإنها من الشياطين " . وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال : " صلوا فيها فإنها بركة " . رواه
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه .
[ ص: 329 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014597أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم " . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه .
وروى
الإمام أحمد من حديث
أسيد بن حضير وابنه
عبد الله ، من حديث
ذي الغرة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر . قال
الإمام أحمد وإسحاق : " صح في الباب حديثان عن رسول الله صلى الله عليه
[ ص: 330 ] وسلم ؛ حديث
nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة ، وحديث
البراء " وهذه سنن صحيحة يتعين المصير إليها ، ولا يصح ادعاء نسخه ؛ لوجوه :
أحدها : أنه لا فرق بينه وبين لحم الغنم ، فأمر بالوضوء من هذا ، ونهى عن الوضوء من هذا ، ولو كان هذا قبل النسخ لأمر بالوضوء منهما .
وثانيها : أن
لحم الإبل ينقض الوضوء لكونه لحم الإبل ، لا لكونه ممسوسا بنار يقتضي الوضوء ، نيه ومطبوخه ، لكن كان النقض بمطبوخه لعلتين زالت إحداهما وبقيت الأخرى ، كما لو مس الرجل فرج امرأته لشهوة انتقض وضوؤه لسببين ، فلو زالت الشهوة بقي مجرد مس الفرج .
وثالثها : أنه لم يجئ حديث بنسخه ، فإن قول
جابر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014598 " كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار " إنما هو قضية عين وحكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه توضأ من لحم مسته النار ، ثم أكل من لحم ولم يتوضأ ، وذاك كان لحم غنم كما جاء مفسرا في روايات أخر ، فأخبر
جابر - رضي الله عنه - أن ترك الوضوء منه كان آخر الأمرين ، وليس في هذا عموم ، ولم يحك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظا عاما ، وإنما يفيد هذا أن مسيس النار لا أثر له ، ولا يصح أن يقال : " لا فرق بينهما بعد تصريح السنة بالفرق " ومن جمع بين ما فرق الله بينه ورسوله كان بمنزلة من قال : "
إنما البيع مثل الربا " وأحل الله البيع وحرم الربا ، وهذا قياس فاسد الوضع ؛ لمخالفة النص .
ورابعها : أنه لو فرضنا أنه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صفة عامة بترك الوضوء مما غيرت النار - مع أن هذا لم يقع - لكان عاما ، والعام لا ينسخ الخاص ، لا سيما الذي فرق بينه وبين غيره من أفراد العام ، بل يكون الخاص مفسرا للعام ومبينا له .
[ ص: 331 ] وخامسها : أنه لو اندرج في العموم قصدا لم يفد العموم ، إلا أنه لا يتوضأ منه من حيث مسته النار ، ولا يبقى المتوضئ من جهة أخرى ، كما لو نسخ التوضؤ من مس الفرج لم ينف التوضؤ من مس فرج المرأة لشهوة ، ولو كان الرجل مخالفا معتقا وقد نسخ ميراث المخالف ، لم ينسخ إرثه من حيث هو معتق .
وسادسها : أنه أمر بالتوضؤ من لحمها مع نهيه عن الصلاة في مباركها في سياق واحد ، مع ترخصه في ترك الوضوء من لحم الغنم ، وإذنه في الصلاة في مرابضها ، وذلك اختصاص الإبل بوصف قابلت به الغنم ، استوجبت لأجله فعل التوضؤ وترك الصلاة ، وهذا الحكم باق ثابت في الصلاة ، فكذلك يجب أن يكون في الوضوء .
وسابعها : أنه قد أشار - صلى الله عليه وسلم - في الإبل إلى "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014599أنها من الشياطين " يريد - والله أعلم - أنها من جنس الشياطين ونوعهم ، فإن كل عات متمرد شيطان من أي الدواب كان ، كالكلب الأسود شيطان ، والإبل شياطين الأنعام ، كما للإنس شياطين وللجن شياطين ؛ ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أركبوه برذونا فجعل يهملج به فقال : " إنما أركبوني شيطانا " . والتجالس والاجتماع ، ولذلك كان على كل ذروة بعير شيطان . والغنم هي من السكينة ، والسكينة من أخلاق الملائكة ، فلعل الإنسان إذا أكل لحم الإبل أورثته نفارا وشماسا وحالا شبيها بحال الشيطان .
والشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فأمر بالوضوء من لحومها ؛ كسرا لتلك الصورة وقمعا لتلك الحال ، وهذا لأن قلب الإنسان وخلقه يتغير
[ ص: 332 ] بالمطاعم التي يطعمها ؛ ولهذا حرم الله الخبائث حتى قيل : إنه حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ؛ لما في طباعها من البغي والعدوان ، فيورث بطباع آكلها ما في طباعها ، وهذه العلة وما يقاربها يدل عليه إيماء النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما دعوى كون الوضوء هو غسل اليد والفم ففاسد أيضا ؛ لوجوه :
أحدها : الوضوء المطلق في لسان الشرع هو وضوء الصلاة .
وثانيها : أنه يلزم منه أن يكون الأمر للاستحباب ، والأصل في الأمر الوجوب .
وثالثها : أنه ذكره في سياق الصلاة مبينا حكم الوضوء والصلاة في هذين النوعين ، والوضوء المقرون بالصلاة هو وضوءها لا غير .
ورابعها : أن
nindex.php?page=showalam&ids=98جابر بن سمرة هو راوي الحديث ، ففهم منه وضوء الصلاة ، وأوجبه وهو أعلم بمعنى ما سمع .
وهذه الوجوه مع غيرها كما يقال في مس الذكر .
وخامسها : أنه فرق بينه وبين لحم الغنم ناهيا عن الوضوء من لحم الغنم ، أو مخيرا بين الوضوء وتركه ، وقد اجتمع الناس على
استحباب غسل الفم واليد من لحم الغنم ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014600من بات وفي يده غمر ( ولم يغسله فأصابه شيء ) فلا يلومن إلا نفسه " .
فكيف يأذن في ترك غسل اليد والفم من لحم الغنم وهو يلزم من ترك ذلك ؟ قال أصحابنا : ما كان من المأكولات له رائحة أو زهومة ونحو ذلك ، فيستحب غسل اليد والفم منه ، وأما ما ليس له شيء من ذلك كالخبز والثمر ، فإن شاء غسل وإن شاء ترك .
[ ص: 333 ] وسادسها : أنه لو كان المراد به غسل اليدين والفم لما فرق بينهما ، وكون الإبل مختصة بزيادة زهومة ودسومة لا يوجب اختصاصها بالأمر ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014601فإنه - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنا فمضمض وقال : إن له دسما " .
وسابعها : أنه سيأتي أنه أمر بالوضوء من لبن الإبل ، ومعلوم أن دسمها دون دسم لحم الغنم ، فكيف يكون المراد به غسل اليد والفم ، وأما حمله على الاستحباب فبعيد ؛ لأنه أمر ، والأمر للإيجاب ؛ ولأنه ذكر الحكم في جواب السائل ، والحكم في مثل هذا لا يفهم منه إلا الإيجاب ، كالوضوء من الصوت والريح ومس الذكر ؛ ولأنه فرق بينه وبين لحم الغنم ، والنهي في لحم الغنم إنما أفاد نفي الإيجاب ، فيجب أن يكون في لحم الإبل مفيدا للإيجاب ؛ ليحصل الفرق ، ولأنه أثبت بذلك صفة في الإبل تقتضي الوضوء ، والأصل في الأسباب المقتضية للوضوء أن تكون موجبة ؛ ولأن استحباب الوضوء من لحم الإبل دون الغنم إحداث قول ثالث خارج عن قولي العلماء ، ولإن قاله قائل وعلل ذلك بالخروج من الخلاف ، وهذه علة اجتهادية ليست تصلح أن تكون علة لنفس الحكم ، والشارع فرق بينهما تفريقا يوجب اختصاص أحدهما بالحكم لمعنى اختلاف العلماء ، وذلك المعنى أن يوجب الوضوء أو لا يوجبه ، أو لا يقتضيه ، ثم لم يسلم اختصاص الإبل دون غيرها من الأنعام بوصف يستحب معه الوضوء بطلب جميع أدلتهم في المسألة من الجمع بينهما وبين غيرهما ، ولم يبق حينئذ دليل يوجب صرف الأمر عن الوجوب ، ويقال : إن جاز أن يختص باستحباب الوضوء جاز أن يختص بوجوبه ، وهو المعقول من الكلام ، فلا وجه للعدول عنه ، ثم الجواب عن جميع هذه الأسئلة أنها احتمالات مرجوحة وتأويلات بعيدة لا يجوز حمل الكلام عليها إلا مع دليل قوي أقوى من تلك الدلالة يوجب الصرف عن الظاهر والمصير إلى الباطن ، وليس في عدم نقض الوضوء بلحوم الإبل دليل يقارب تلك الدلالة فضلا عن أن يكون أقوى منها ، وإنما هو استصحاب حال وقياس طردي يحسن اتباعها عند عدم
[ ص: 334 ] الدلالة بالكلية ، ولقد تعجب
الإمام أحمد بمن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح ، وينقض الوضوء بالقهقهة ، مع أنها أبعد شيء عن العقول والأصول ، وحديثها من أوهى المراسيل ، ويترك العمل بهذا أو يعمل بحديث مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه ، وأن أحاديث النقض ليست مثل هذه الأحاديث في الصحة والظن ، فمن يخالفه من العلماء أنهم لم يستمعوه ، أو لم يبلغهم من وجه يصح عندهم ، فلم تقم عليهم به الحجة . وكذلك في
انتقاض وضوء الجاهل به روايتان :
إحداهما : ينتقض وضوء العالم والجاهل كسائر النواقض .
والثانية : لا ينتقض وضوء الجاهل ، ولا يعيد ما صلى بعد أكله بوضوئه المتقدم ، قال الخلال : " وعلى هذا استقر قول أبي عبد الله في هذا " ؛ لأن هذا خبر واحد ورد في شيء يخالف القياس ، فعذر الجاهل به كما يعذر في الجهل بالزنا وشرب الخمر الحديث العهد بالإسلام والناشئ ببادية .
بخلاف
الوضوء من الخارج من السبيلين ، فإن المراد هنا هو من لم يسمع الحديث من العامة ونحوهم ، فأما إن كان قد بلغه الحديث ، فعنه يعيد ، وعنه لا يعيد إذا تركه على التأويل وطالت المدة ، وعنه إذا طالت المدة وفحشت مثل عشر سنين ، لم يعد بخلاف ما إذا كانت قصيرة ، ولم يفرق بين العالم والجاهل ، فإن علم هذا قد انتشر ، يعم طرد هذا أن من كان لا يرى النقض بخروج النجاسات أو بمس الذكر ثم رآه بعد ذلك لا يجب عليه إعادة ما كان صلاه ، وقيل عنه : لا يعيد إذا تركه متأولا بحال ، وكذلك منكان صلى بتقليد عالم وشبه ذلك ؛ لأن هؤلاء معذورون ، وكذلك يقال فيمن أخل ببعض أركان الصلاة أو شرائطها المختلف فيها لعدم العلم بذلك ، حيث يعذر به اجتهاد أو تقليد ونحوه ثم علم ، فأما من يحكم بخطئه من المخالفين مثل من ترك الطمأنينة في الصلاة أو مسح على الخفين أكثر من الميقات الشرعي
[ ص: 335 ] تقليدا لحديث
عمر فإنه يعيد ، نص عليه ؛ لكونه قد خالف حديثا صحيحا لا معارض له من جنسه ، بخلاف ما اختلف فيه من الصحابة ولا نص عليه .