صفحة جزء
( 5042 ) مسألة ; قال : ( فإن خلطها بماله ، وهي لا تتميز ، أو لم يحفظها كما يحفظ ماله ، أو أودعها غيره ، فهو ضامن ) في هذه المسألة ثلاث مسائل ; ( 5043 ) المسألة الأولى ، أن المستودع إذا خلط الوديعة بما لا تتميز منه من ماله أو مال غيره ، ضمنها سواء خلطها بمثلها ، أو دونها ، أو أجود من جنسها أو غير جنسها ، مثل أن يخلط دراهم بدراهم ، أو دهنا بدهن ، كالزيت بالزيت ، أو السمن أو بغيره . وبهذا قال الشافعي ، وأصحاب الرأي .

وقال ابن القاسم : إن خلط دراهم بدراهم على وجه الحرز ، لم يضمن . وحكي عن مالك ، لا يضمن إلا أن يكون دونها ; لأنه لا يمكنه ردها إلا ناقصة . ولنا ، أنه خلطها بماله خلطا لا يتميز ، فوجب أن يضمنها ، كما لو خلطها بدونها ، ولأنه إذا خلطها بما لا يتميز ، فقد فوت على نفسه إمكان ردها ، فلزمه ضمانها ، كما لو ألقاها في لجة بحر . وإن أمره صاحبها بخلطها بماله أو بغيره ، ففعل ذلك ، فلا ضمان عليه ; لأنه فعل ما أمر به ، فكان نائبا عن المالك فيه .

وقد نقل مهنا عن أحمد ، في رجل استودع عشرة دراهم ، واستودعه آخر عشرة ، وأمراه أن يخلطها ، فخلطها ، فضاعت الدراهم ، فلا شيء عليه . فإن أمره أحدهما بخلط دراهمه ، ولم يأمره الآخر ، فعليه ضمان دراهم من لم يأمره دون الأخرى . وإن اختلطت هي بغير تفريط منه ، فلا ضمان عليه ; لأنها لو تلفت بذلك لم يضمن ، فخلطها أولى . وإن خلطها غيره ، فالضمان على من خلطها ; لأن العدوان منه ، فالضمان عليه ، كما لو أتلفها .

( 5044 ) المسألة الثانية ، إذا لم يحفظها كما يحفظ ماله ، وهو أن يحرزها بحرز مثلها ، فإنه يضمنها . وحرز مثلها يذكر في باب القطع في السرقة . وهذا إذا لم يعين له المودع ما يحفظها فيه ، فإن عين له لزمه حفظها فيما أمره به ، سواء كان حرز مثلها أو لم يكن وإن أحرزها بمثله أو أعلى منه لم يضمنها ويتخرج أن يضمنها إذا فعل ذلك من غير حاجة ( 5045 ) المسألة الثالثة ، إذا أودعها غيره . ولها صورتان ; إحداهما ، أن يودعها غيره لغير عذر ، فعليه الضمان .

بغير خلاف في المذهب . وهو قول شريح ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق . وقال ابن أبي ليلى : لا ضمان عليه ; لأن عليه حفظها وإحرازها ، وقد أحرزها عند غيره وحفظها به ، ولأنه يحفظ ماله بإيداعه ، فإذا أودعها فقد حفظها بما يحفظ به ماله ، فلم يضمنها ، كما لو حفظها في حرزه . ولنا ، أنه خالف المودع فضمنها . كما لو نهاه عن إيداعها . وهذا صحيح فإنه أمره بحفظها بنفسه ، ولم يرض لها غيره . فإذا ثبت هذا ، فإن له تضمين الأول ، وليس للأول الرجوع على الثاني ; لأنه دخل معه في العقد على أنه أمين له لا ضمان عليه .

وإن [ ص: 302 ] أحب المالك تضمين الثاني ، فذكر القاضي أنه ليس له تضمينه ، في ظاهر كلام أحمد ; لأنه ذكر الضمان على الأول فقط . وهذا مذهب أبي حنيفة ; لأنه قبض قبضا موجبا للضمان على الأول ، فلم يوجب ضمانا آخر ، وفارق القبض من الغاصب ; فإنه لم يوجب الضمان على الغاصب ، إنما لزمه الضمان بالغصب . ويحتمل أن له تضمين الثاني أيضا ; لأنه قبض مال غيره على وجه لم يكن له قبضه ، ولم يأذن له مالكه ، فضمنه ، كالقابض من الغاصب ، وهذا مذهب الشافعي

وذكر أحمد الضمان على الأول لا ينفي الضمان عن الثاني ، كما أن الضمان يلزم الغاصب ، ولا ينفي وجوبه على القابض منه . فعلى هذا يستقر الضمان على الأول ، فإن ضمنه لم يرجع على أحد ، وإن ضمن الثاني يرجع على الأول . وهذا القول أشبه بالصواب ، وما ذكرنا للقول الأول لا أصل له ، ثم هو منتقض بما إذا دفع الوديعة إلى إنسان عارية ، أو هبة ، أو وديعة لنفسه ، فأما إن دفع الوديعة إلى من جرت عادته بحفظها له من أهله ، كامرأته وغلامه ، لم يضمن . نص عليه أحمد . وهو قول أبي حنيفة

وقال الشافعي : يضمن ; لأنه سلم الوديعة إلى من لم يرض به صاحبها ، فضمنها . كما لو سلمها إلى أجنبي . ولنا ، أنه حفظها بما يحفظ به ماله ، فأشبه ما لو حفظها بنفسه ، وكما لو دفع الماشية إلى الراعي ، أو دفع البهيمة إلى غلامه ليسقيها ، ويفارق الأجنبي ، فإن دفعها إليه لا يعد حفظا منه . الصورة الثانية ، إذا كان له عذر ، مثل إن أراد سفرا ، أو خاف عليها عند نفسه من حرق أو غرق أو غيره ، فهذا إن قدر على ردها على صاحبها أو وكيله في قبضها ، لم يجز له دفعها إلى غيره .

فإن فعل ضمنها ; لأنه دفعها إلى غير مالكها بغير إذن منه من غير عذر ، فضمنها ، كما لو أودعها في الصورة الأولى . وإن لم يقدر على صاحبها ولا وكيله ، فله دفعها إلى الحاكم ، سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لم يكن ; لأنه متبرع بإمساكها ، فلا يلزمه استدامته ، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته . وإن أودعها مع قدرته على الحاكم ، ضمنها ; لأن غير الحاكم لا ولاية له . ويحتمل أن يجوز له إيداعها ; لأنه قد يكون أحفظ لها وأحب إلى صاحبها . وإن لم يقدر على الحاكم ، فأودعها ثقة ، لم يضمنها لأنه موضع حاجة . وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أنه يضمنها .

ثم تأول كلامه على أنه أودعها من غير حاجة ، أو مع قدرته على الحاكم . وإن دفنها في موضع وأعلم بها ثقة يده على الموضع ، وكانت مما لا يضرها الدفن ، فهو كإيداعها عنده ، وإن لم يعلم بها أحدا ضمنها ; لأنه فرط في حفظها ، فإنه لا يأمن أن يموت في سفره ، فلا تصل إلى صاحبها ، وربما نسي مكانها ، أو أصابه آفة من هدم أو حرق أو غرق ، فتضيع . وإن أعلم بها غير ثقة ، ضمنها ; لأنه ربما أخذها . وإن أعلم بها ثقة لا يد له على المكان ، فقد فرط ، لأنه لم يودعها إياه ، ولا يقدر على الاحتفاظ بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية