صفحة جزء
( 6306 ) الفصل الثاني : إن عدة المطلقة ، إذا كانت حرة وهي من ذوات القروء ، ثلاثة قروء . بلا خلاف بين أهل العلم ; وذلك لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } . والقرء في كلام العرب يقع على الحيض والطهر جميعا ، فهو من الأسماء المشتركة ، قال أحمد بن يحيى بن ثعلب : القروء الأوقات ، الواحد قرء ، وقد يكون حيضا وقد يكون طهرا ; لأن كل واحد منهما يأتي لوقت . قال الشاعر :

كرهت العقر عقر بني تميم إذا هبت لقاريها الرياح

يعني : لوقتها . وقال الخليل بن أحمد يقال : أقرأت المرأة : إذا دنا حيضها وأقرأت : إذا دنا طهرها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : {دعي الصلاة أيام أقرائك . فهذا الحيض . } وقال الشاعر :

مورثة عزا وفي الحي رفعة     لما ضاع فيها من قروء نسائكا

فهذا الطهر .

واختلف أهل العلم في المراد بقوله سبحانه : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } . واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد ، فروي أنها الحيض . روي ذلك عن عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والثوري ، والأوزاعي ، والعنبري ، وإسحاق وأبي عبيد ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن أبي بكر الصديق ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وأبي موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء . قال القاضي : الصحيح عن أحمد ، أن الأقراء الحيض .

وإليه ذهب أصحابنا ، ورجع عن قوله بالأطهار ، فقال : في رواية النيسابوري : كنت أقول : إنه الأطهار ، وأنا أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض . وقال في رواية الأثرم : كنت أقول الأطهار ، ثم وقفت لقول الأكابر . والرواية الثانية عن أحمد ، أن القروء الأطهار . وهو قول زيد ، وابن عمر ، وعائشة ، وسليمان بن يسار ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وأبان بن عثمان ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ومالك ، والشافعي ، وأبي ثور . وقال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك . قال ابن عبد البر : رجع أحمد إلى أن القروء الأطهار ، قال في رواية الأثرم : رأيت الأحاديث عمن قال : القروء الحيض .

تختلف ، والأحاديث عمن قال : إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة . أحاديثها صحاح وقوية . واحتج من قال ذلك بقول الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } . أي في عدتهن . كقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . أي : في يوم القيامة . } وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض . ويدل عليه [ ص: 82 ] قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : مره { فليراجعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فإن شاء طلق ، وإن شاء أمسك ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء } . متفق عليه . وفي رواية ابن عمر : ( فطلقوهن في قبل عدتهن ) .

ولأنها عدة عن طلاق مجرد مباح ، فوجب أن يعتبر عقيب الطلاق ، وكعدة الآيسة والصغيرة ولنا قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } . فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر ، فدل ذلك على أن الأصل الحيض ، كما قال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا } . الآية ، ولأن المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { تدع الصلاة أيام أقرائها . } رواه أبو داود .

وقال لفاطمة بنت أبي حبيش : { انظري ، فإذا أتى قرؤك ، فلا تصلي ، وإذا مر قرؤك ، فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء } رواه النسائي . ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع ، فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { طلاق الأمة طلقتان ، وقرؤها حيضتان } . رواه أبو داود ، وغيره . فإن قالوا : هذا يرويه مظاهر بن مسلم ، وهو منكر الحديث . قلنا : قد رواه عبد الله بن عيسى ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر ، كذلك أخرجه ابن ماجه ، في ( سننه ) ، وأبو بكر الخلال ، في ( جامعه ) ، وهو نص في عدة الأمة ، فكذلك عدة الحرة .

ولأن ظاهر قوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } . وجوب التربص ثلاثة كاملة ، ومن جعل القروء الأطهار ، لم يوجب ثلاثة ; لأنه يكتفي بطهرين وبعض الثالث ، فيخالف ظاهر النص ، ومن جعله الحيض ، أوجب ثلاثة كاملة ، فيوافق ظاهر النص ، فيكون أولى من مخالفته ، ولأن العدة استبراء ، فكانت بالحيض ، كاستبراء الأمة ، وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل ، والذي يدل عليه الحيض ، فوجب أن يكون الاستبراء به . فإن قيل : لا نسلم أن استبراء الأمة بالحيضة ، وإنما هو بالطهر الذي قبل الحيضة . كذلك قال ابن عبد البر ، وقال : قولهم : إن استبراء الأمة حيضة بإجماع .

ليس كما ظنوا ، بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة ، واستيقنت أن دمها دم حيض ، كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين دخل عليه في مناظرته إياه . قلنا : هذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة } . ولأن الاستبراء تعرف براءة الرحم ، وإنما يحصل بالحيضة ، لا بالطهر الذي قبلها ، ولأن العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم ، فوجب أن تتعلق بالطهر ، كوضع الحمل ، يحققه أن العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل ، فتارة تحصل بوضعه ، وتارة تحصل بما ينافيه ، وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه .

فأما قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } فيحتمل أنه أراد قبل عدتهن ، إذ لا يمكن حمله على الطلاق في العدة ، ضرورة أن الطلاق سبق العدة ، لكونه سببها ، والسبب يتقدم على الحكم ، فلا يوجد قبله ، والطلاق في الطهر تطليق قبل العدة إذا كانت الأقراء الحيض .

التالي السابق


الخدمات العلمية