تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد: فهذا كتاب (الأمة) الأول وهو باكورة أعمالها، في مجال المساهمة في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي، الذي عزمت على المضي به اليوم، وتخليصه من النظرات الجزئية المتناثرة، وعجزه عن مواجهة مشكلاته، وتحدياته الداخلية منها والخارجية، على ضوء رؤية إسلامية ذات دراية وفقه، بعيدا عن المواقف والتصرفات الانفعالية الخطابية غير المتوازنة التي لا تخرج عن كونها ومضات آنية تحرك العاطفة ولا تهدي العقل، ومن ثم تتركها لعبث الأهواء وتقاذف الأمواج.
[ ص: 7 ]
لا بد من إعادة ترتيب للعقل الإسلامي المعاصر، حتى يتمكن من تحقيق النظرة الكلية للأشياء، والقدرة على تصنيف المشكلات، ووضع سلم منضبط لقضية الأولويات، وتوفر الجهود والطاقات، وتوجهها إلى المجالات المجدية من خلال الصورة العالمية بكل تعقيداتها وتشابكها، وتطوير وسائل الدعوة إلى الله بما تقتضيه الحال، واختبار الأسلحة القديمة، لأن بعضها أصبح يتحرك في الفراغ، يصول ويجول في معارك وهمية انتهت بأصحابها وأسلحتها وقد تغيرت الحال..
لقد تبدلت مشكلات العالم، وتبدلت أسلحته، ونحن ما زلنا نصر على مواجهة المشكلات الجديدة، والدخول في المعارك الجديدة بالأسلحة والوسائل القديمة، التي أقل ما يقال فيها: إنما وجدت لغير هـذه المعارك وغير هـذه المشكلات.
وما زالت تلك الوسائل تسلمنا من هـزيمة إلى أخرى، على مختلف الأصعدة، ولولا بعض الحصون القديمة التي بنيت لنا نلوذ بها ونحتمي فيها لأصبحنا أثرا بعد عين.
لا بد من انتهاء أحلام اليقظة في حياتنا، والتي ما زالت تسيطر على قطاعات كبيرة من عالم المسلمين اليوم، والوصول إلى اليقظة غير الحالمة، بكل مقوماتها، ونستطيع أن نقول إلى حد بعيد: إن الجيل المسلم اليوم أحسن الدخول في سن التمييز، لكنه إلى الآن لم يحسن الخروم منه، والانتقال إلى مرحلة الرشد التي تلي مرحلة التمييز، لقد كان عطاء سن التمييز طيبا، حقق لنا الاعتزاز بهذا الدين، والاستعلاء به والثقة بقدرته، بعد أن كادت تغتالنا مذاهب الشياطين، لكن هـذا الإيمان يقتضي حركة منضبطة مع مبادئ الإسلام، يقتضي سلوكا رشيدا يأخذ
[ ص: 8 ] باعتباره كل الظروف المحيطة إلى جانب الوسائل المتاحة، وليست الاستراتيجية في حقيقتها إلا القدرة على التصرف بالإمكانيات المتاحة من خلال الظروف المحيطة، ولا تخرج الحكمة التي أمرنا أن ندعو إلى الله بها - بقوله:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن إن ربك هـو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (النحل: 125).
... عن حسن التقدير وحسن الأداء، والقراءة الصحيحة للظروف والتعامل معها، إنها وضع الأمور بمواضعها، ووزن الأشياء بموازينها،
( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (البقرة: 269).
والرسول القدوة خاطب الناس على قدر عقولهم، وعرفت البلاغة: بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
والشيخ محمد الغزالي الذي استجاب مشكورا للمساهمة معنا، ولتقديم كتاب ((الأمة)) الأول، غني عن التعريف، فهو يعتبر بحق أحد شيوخ الدعوة الإسلامية الحديثة وفقهائها، يحمل تاريخ نصف قرن أو يزيد من العمل الإسلامي، وهو أحد معالم الحركة الإسلامية الحديثة ورموزها، رافق نشوء الحركة الإسلامية الحديثة في مصر، كما أنه شارك في رسم سياستها، وكان على مدى هـذه الأعوام الطوال: العقل المفكر، والقلم المسطر، واللسان الناطق، حتى ليمكننا القول: بأن مؤلفاته التي تشكل
[ ص: 9 ] بمجموعها جانبا هـاما من مكتبة الدعوة الإسلامية الحديثة، يمكن اعتبارها سجلا لتاريخ الدعوة الفكري إلى حد بعيد، وبذلك نستطيع أن نترسم الملامح الرئيسية للدعوة الإسلامية الحديث وتطورها من خلال هـذه المؤلفات. ذلك أن فهمه للقضية الإسلامية لم يكن فهم مؤلفات وأوراق بعيدة عن دخان المعركة، ومثار نقعها، وجلبة سلاحها، وإنما جاءت كتاباته من أرض المعركة وبأحد أسلحتها...
لم تكن كتاباته شبيهة بعمل المراسل الحربي الذي يختار الأرض الباردة للأحداث، يصفها وقد يخطئ وصفها، وإنما كان فيها الجندي المقاتل، والقائد الرائد، والناصح الأمين...
إن معظم الذين كتبوا، ويكتبون عن الإسلام تعوزهم المعاناة الدائمة، والحس الصادق، والعقل الراجح، والاطلاع الواسع، وحسن الفقه لمعركة الإسلام وخصومه، معظم هـؤلاء الذين كتبوا عن أدواء العالم الإسلامي، جاءت كتاباتهم أشبه بملامح رئيسية، ووصف لأعراض المرض، كان ينقصهم إلى حد بعيد خبرة المرض بدقة، ومن ثم وصف العلاج له...
كانت كتابة الشيخ الغزالي تحمل عاطفة الأم على وليدها المريض الذي تخشى أن يفترسه المرض، وبصرة الطبيب الذي يقدم العلاج، وقد يكون العلاج جراحة عضوية إن احتاج الأمر إلى ذلك...
وكانت كتبه وكتاباته تواجه التحديثات الداخلية والخارجية على حد سواء، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البيهقي :
( يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ) [ ص: 10 ] وكأني بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم يجمل في هـذا الحديث ـوقد أوتي جوامع الكلم - التحديث التي لا تخرج بمجموعها عن هـذه الثلاثة: تحريف الغلاة، وانتحال أهل الباطل، وتأويل واجتهاد الجاهل. ولا بد من المواجهة في هـذه الجبهات الثلاث. أما الإلقاء بالتبعة على واحدة منها دون سواها وإعفاء النفس من جرأة المواجهة في الجبهات الأخرى فهي النظرة الجزئية التي يعاني منها مسلم اليوم.
وحين نعرض لمؤلفات الشيخ الغزالي التي رافقت خطوات الدعوة الإسلامية الأولى في العصر الحديث، والتي جاءت تسدد طريقها، وتبصرها بأعدائها، وتحذرها من المزالق التي ترسم لها، في الوقت الذي كانت تصطرع فيه الأفكار والمبادئ لإيجاد البدائل الثقافية للإسلام، وتكريس فصل الدولة عن الدين، نجد الشيخ الغزالي في الخندق الأول حيث أدرك الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها أعداء الإسلام، من خلال واقع اجتماعي ليس له من الإسلام سوى الاسم، لذا نرى أنه من أوائل من كتب عن ((الإسلام والأوضاع الاقتصادية))، ((والإسلام والمناهج الاشتراكية)) وكان كتابه ((المفترى عليه بين الرأسماليين والشيوعيين)) أول صيحة في التميز الإسلامي، كما أنه من أوائل من تنبه إلى الخطورة والأمراض التي يخلفها الاستبداد السياسي، ولئن كانت كتاباته الأولى يمكن تصنيفها في مجال الأدب الدفاعي، إن صح التعبير، إلا أنه لم يقتصر على هـذا اللون من المواجهة الذي اقتضته الظروف من خلال الوسائل المتاحة، بل تجاوز ذلك إلى تأصيل الكثير من القضايا الثقافية في الفكر الإسلامي..
كتب في العقيدة وهي رأس الأمر كله وكتابه ((عقيدة المسلم)) من الكتب
[ ص: 11 ] المبكرة جدا في هـذا المجال، وكتب في السلوك الإسلامي ذلك أن الخلق هـو الغاية من البعثة المحمدية أصلا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
كما أنه تنبه لقضية خطيرة كانت وما زالت تهدد مجتمعات المسلمين ألا وهي قضية التعصب والتسامح التي وضح حدودها، وبين ضوابطها، حتى لا تعبث بها الأهواء، ويأكل بها الأعداء، والتي ما زالت تطل برأسها كلما سنحت لها الفرصة لتبدأ عملية التآكل الداخلي.
وبهذه المناسبة فمن الوفاء الفكري أن نعرض لكتاب الشيخ الغزالي ((من هـنا نعلم)) الذي رد فيه على الشيخ خالد محمد خالد في كتابه ((من هـنا نبدأ)) والذي بدأ فيه رحلة التضليل الثقافي ونسب للإسلام ما ليس منه، ولئن أدركت الشيخ خالد في الأيام الأخيرة توبة الفكر من هـذه القضية الخطيرة في كتابه ((الدولة في الإسلام)) وجاءت هـذه التوبة بعد مضي جيل كامل كاد يقع فريسة الضلال والتضليل، فلا بد أن نذكر هـنا الشيخ الغزالي وهو يرد انتحال المبطلين ذلك أن التوبة الآن لا تفيد إلا صاحبها وأمره إلى الله.. بعد أن أصبح التصور الإسلامي في هـذه القضية من المسلمات، وبعد أن أصبح الكتاب تاريخيا، وهيهات أن يسترد التاريخ... من هـنا تأتي قيمة كتاب الغزالي ((من هـنا نعلم)) الذي بنى الجدار النفسي للشباب المسلم، وحال دون اقتحامه ومغالطته.
ولسنا الآن بسبيل الكلام عن مؤلفات الشيخ الغزالي التي قد تربو على خمسة وثلاثين كتابا، والتي تمثل إلى حد كبير حيزا في مجال العقيدة والدعوة والسيرة والحركة والفكر والثقافة من كتبة المسلم في العصر الحديث، لا يمكن الاستغناء عنها في التأريخ لفكر الدعوة الإسلامية المعاصرة وتطوره وطبيعة المواجهة.
[ ص: 12 ]
لقد قدم الكثير من الكتابات في مجال المناصحة للدعوة الإسلامية نفسها، تمثل وجهة نظره في مشكلات الدعوة والأمراض التي أصيبت بها.
وفي اعتقادنا أن وجهة النظر هـذه وغيرها تعتبر علامة صحة في مسيرة الدعاة، فهي تغني الحركة وتطور رؤيتها، وتنقذها من آفة الحزبية التي يمكن أن تدركها لسبب أو لآخر، ولئن كانت بعض الملاحظات شديدة، وكان بعضها الآخر محل نظر إلا أنها تمثل التنوع في النظر، وليس التباين والتضاد، تمثل الاختلاف وليس الافتراق...
ولعل من أبرز الأمور التي انتهى إليها بعد هـذه الجولة الاطلاعية ذات المساحة العريضة في مختلف المجالات: أن مشكلة المسلمين الرئيسية تكمن في التمزق الثقافي الذي عرض له، وبين أسبابه في كتابه الأخير ((دستور كل شيء))، وإذا افتقدت وحدتها الفكرية فقد خسرت كل شيء، ووقعت في منطقة العجز الحضاري كما هـو حال الأمة المسلمة اليوم، ورحم الله المفكر مالك بن نبي الذي كانت صيحاته وتنبيهاته مبكرة ومتكررة للعناية بالمشكلة الثقافية التي اعتبرها أس القضية.
وبعد فإن الكتاب الذي تقدمه ((الأمة)) باكورة لمساهماتها الثقافية في هـذا المجال، كما قدمنا، يعرض لمجموعة مشكلات قديمة جديدة تعيق نهضة المسلمين اليوم، ذلك أن المدافعين عن الإسلام لا ينقصهم غالبا الحماس والإخلاص، وإنما ينقصهم عمق التجربة وحسن الفقه، إنهم يظنون أن بإمكانهم إزالة علل المسلمين في أيام معدودات، وما على الشباب إلا أن يقدم ويقاتل، ويحطم ما أمامه من عوائق، وسوف يتم له النصر.!!
[ ص: 13 ]
وإن الاستعجال حمل متاعب كبيرة، وخسائر ثقيلة للدعوة الإسلامية، بل ربما زاد خصومها قوة وتمكينا، لذلك لا بد من بصيرة فاحصة متعمقة، تتدبر ثقافتنا، وتنقي منابعها، وتنقد مستوانا الحضاري الأخير، وتستكشف أسباب هـبوطه، وتوقف التراجع الحضاري الذي بدأ من أوائل القرن الثالث عشر للهجرة.
إن هـناك أكثر من سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط واستخراجه لا نعرف منها شيئا، فهل يخدم هـذا عقيدة التوحيد؟!
ونحن لا ندعي هـنا أن ما جاء في الكتاب يمثل الحق المطلق، وإنما هـي وجهات نظر جديرة بالدراسة والانتفاع، وإغناء الرؤية الإسلامية المعاصرة.
وهذه المناسبة تذكرنا بقولة الإمام مالك رحمه الله:
كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هـذا القبر ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم، فهو المسدد بالوحي، المؤيد به.
نرجو الله أن يأخذ بنواصينا إلى الخير، وأن يرزقنا السداد في الرأي، والإخلاص في العمل، وأن يجزل مثوبته للشيخ محمد الغزالي على جهده وجهاده، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
[ ص: 14 ]