الحكم أمانة ومسئولية:
(ط) والحكم في الإسلام أمانة ثقيلة يوجل منها الأقوياء فكيف يرنو إليها الضعفاء؟ إنه ليس جنون العظمة عند محب للسلطة، ولا الاعتداد بالنفس سواء كان هـذا الاعتداد وليد قدرة ذاتية، أو وليد حالة مرضية..!!
إن الحكم - عند من يكلف به - مسئولية فادحة أمام الله، والحاكم أجير
[ ص: 74 ] عند جمهور المسلمين، يرعى مصالحهم الدينية والمدنية لقاء ما يأخذ من مرتبات..
ولننقل من سيرة أبي بكر ثم من سيرة عمر رضي الله عنهما ما يصور هـذه المعاني، وما يكشف إجمالا سياسة المال والحكم في الإسلام..
" قال أبو بكر لأم المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة: هـذا يوم يجلى لي عن غطائي، وأشاهد جزائي! إن فرحا، فدائم، وإن ترحا، فمقيم.. "
إن أضطلعت بإمامة هـؤلاء الناس حين كان النكوص إضاعة، والخذل تفريطا يعني أنه ما رغب في الخلافة، ولا أحبها، ولكنه أحس أن الجبن عن قبول المنصب المعروض سيعرض الأمة لفتن شداد، ولذلك يقول بعد: " ... فشهيدي الله ما كان يقيلني إياه - ما كان يقبل مني تركه - ... "
ويذكر أبو بكر أنه ما أخذ من مال الأمة إلا النزر اليسير، صفحة فيها لبن من ناقة خصصت له من بيت المال، فيقول:
فتبلغت بصفحتهم، وتعللت بدرة لقحتهم، وأقمت صلاتي معهم لا مختالا أشرا، ولا متكاثرا بطرا..!! لم أعد - أتجاوز - سد الجوعة، ووري العورة، وقواتة القوام! - قدر ما يعيش به من القوت الذي يمسك حياته - ...
ثم يستشهد الخليفة الأول بالله أنه اضطر للأكل من بيت المال دفعا للجوع، وأن أحشاءه كانت تمتعض لغثاثة الأكل الذي يتناوله! ولكن المضطر يستسيغ المر! وعبارته هـي " حاضري الله من طوى ممعض تهفو منه الأحشاء، وتجب له الأمعاء، فاضطررت إلى ذلك اضطرار المريض إلى
[ ص: 75 ] المعيف الآجن " .
ثم يوصي الخليفة المحتضر ابنته أن ترد على المسلمين ما أخذه من مالهم، فيقول:
" فإذا أنا مت فردي إليهم صفحتهم، وعبدهم - الذي كان يخدمه - ولقحتهم - الناقة التي كانت تحلب له - ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتقيت بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيت بها نز الأرض، وكان حشوها قطع السعف " .
كانت ((المرتبة)) التي ينام عليها محشوة بقطع السعف..!! قال الشيخ الخضري :
وكأن أبا بكر يرى أنه لا حق له في بيت المال - نظير عمله - فأوصى بأرضه للمسلمين مقابل ما أخذ منهم.
أما بلاؤه الطويل في تثبيت قواعد الإسلام أمام المرتدين، وإعداده الفذ لحرب الفرس والروم، فذاك جهاد عبد يبتغي وجه الله، ولا يطلب عليه أجرا..
وظاهر أن الخليفة الأول جشم نفسه ما لم يكلف به، فإن الصحابة عن طيب نفس فرضوا له من المال العام ما يستحقه عدلا، وما لا حرج فيه أبدا...
روى ابن سعد في طبقاته، قال:كان أبو بكر ينفق من استغلال ملكه وعمل يده وقد ظل ستة أشهر بعد خلافته وهو على حاله تلك، لا ينفق على نفسه من بيت مال المسلمين شيئا..
فأصبح يوما وعلى ساعده أبراد، وهو ذاهب إلى السوق! فلقيه عمر فقال: أين تريد؟ قال: إلى السوق!
[ ص: 76 ]
قال: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة (أمين بيت المال) فلما ذهب إليه قال أبو عبيدة: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين، ليس بأفضلهم ولا أوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، إذا أخلقت شيئا رددته وأخذت غيره! ففرضا له كل يوم نصف شاة وما كساه.
قالت عائشة - فيما رواه الطبري ـ: كان منزل أبي بالسنح عند زوجته حبيبة ابنة خارجة ، وكان قد حجر عليه حجرة من سعف فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزله بالمدينة..
مكث بعد البيعة ستة أشهر بهذه الحجرة من السعف!! سبحان الله، لقد قرأت وصفا لحوض السباحة المكيف الهواء الذي كان يتردد عليه الرفيق خروشوف على شاطئ البحر الأسود، فشعرت بنفحة من الترف تلطف الجو وأنا أقرأ من بعيد، فكيف لو سبحت فيه؟!
إن ممثلي الشعب يأكلون هـنيئا ويشربون مريئا من مال الشعب، ويقولون عن الدين: إنه أفيون الشعوب، وعن أمراء المؤمنين: إنهم آكلو الشعوب!
ترى لو أن خروشوف بات ليلة واحدة في الحجرة الممردة من سعف النخيل، وتقلب على فراش من القش يقيه نز الأرض ورطوبتها، ماذا كان يقول؟
هل يبقى على قوله: إن الدين يخدر الشعوب، وإن الخلفاء يأكلون الجماهير؟ أم يعلم أن آكلي الشعوب قوم آخرون!!
في هـذا المسكن المتواضع أقام الرجل الذي وضع الخطة لطرد هـرقل من الشام إلى الأبد، وطرد كسرى من عاصمته وكان يقيم في قصره الأبيض الذي
[ ص: 77 ] وصفه البحتري بقوله:
لست أدري أصنع إنس لجن سكنوه أم صنع جن لإنس
وجاء بعد أبي بكر عمر بن الخطاب ، رجل الدولة العظيم، وعبقري الحرب والسلام، ومنصف الجماهير من رءوسها!
والذي يعنينا هـنا إبراز خلتين اثنتين من سيرته الماجدة:
شعوره الغامر بمسئولية الحكم وقلقه من حسابه عنه أمام الله..
ثم رفضه الصارم لكل ذرة من استغلال الحكم للنفس أو للآل..!!
في منقبته الأولى، نذكر قوله:
لو أن جملا هـلك ضياعا بشط الفرات، لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب - يعني نفسه - ويشبه ذلك ما روي عنه أيضا: لو إن بغلا عثر بالعراق لحسبت عمر مسئولا عنه: لم لم يسو له الطريق ؟؟
وعن أبي رواحة كتب عمر بن الخطاب إلى الولاة: اجعلوا الناس عندكم في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم! إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب، قوموا بالحق ولو ساعة من نهار.... وخطب يوما فقال: " أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم.. ولكفى عمر مهما محزنا انتظار مواقف الحساب بأخذ حقوقكم، كيف آخذها، ووضعها، أين أضعها؟ وبالسير فيكم، كيف أسير؟ فربي المستعان، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده... "
[ ص: 78 ]
أما بعده هـو وأهله عن كل عمل يشم منه استغلال النفوذ فهاكم ما ذكره الأستاذ الخضري في محاضراته.. قال: لما ترك ملك الروم الغزو - وشرع في الصلح - وكاتب عمر وقاربه، سير إليه عمر الرسل مع البريد فبعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - وكانت زوجة لعمر - هـدية إلى ملكة الروم، فيها طيب ومشارب وأحناش من أحناش من أحناش النساء، ودسته إلى البريد فوصله لها، وجمعت امرأة القيصر نساءها، وقالت لهن: هـذه هـدية امرأة ملك العرب، وبنت نبيهم! وكاتبتها وأهدت لها، وكان فيما أهدت عقد فاخر!
فلما انتهى البريد إلى عمر أمر بإمساكه، ودعا: الصلاة جامعة!! فاجتمع الصحابة وصلى بهم عمر ركعتين، ثم قال: إنه لا خير في أمر أبرم بغير شورى، قولوا في هـدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة ملك الروم؟
فقال قائلون: هـو لها بالذي أهدته إليها - أي في مقابله - وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به.. وقال آخرون: قد كنا نهدي الثياب لنستثيب - أي لنتلقى جزاءها هـدية قد تكون أفضل -
قال عمر:
ولكن الرسول - الذي حمل - رسول المسلمين، والبريد بريدهم... ورأى عمر أن الهدية المرسلة إلى امرأته فاخرة ثمينة، وأن العقد على صدر امرأته يقلقه، فصادره لحساب بيت المال، وأعطى امرأته ثمن ما أنفقت في هـديتها الأولى..
قال المؤرخون: وكان عمر إذا نهى الناس عن أمر من الأمور جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعله إلا أضعفت عليه العقوبة...
[ ص: 79 ] إن عمر استعف وأعف أهله عن دانق من المال العام، وكان مثل الخليفة الأول يكدح في خدمة الأمة ورسالتها إيمانا واحتسابا..
لقد قدم المسلمون للدنيا في المجال الفردي والاجتماعي والسياسي مبادئ ونماذج شدهت الناظرين، وسحرت المراقبين.
إن العرب في العصر الوسيط لم ينطلقوا من فراغ، لقد صبهم الإسلام في قوالبه، ثم قذف بهم في المشارق والمغارب، فأعادوا تشكيل العالم أجمع على نحو جديد.. وأسلست الجماهير قيادها للدين الوافد لأنها رأت فيه نجاتها وكرامتها..,
ومهما تعصبت الوثنية والصليبية والصهيونية ضد الإسلام، فإن الحقائق الكبرى التي أشرق بها هـذا الدين لن تستخفي عن العيون، ولن تذيبها الضغائن السود!
ماذا كان في فارس والروم من مناهج الحكم التي طبقت في المدينة المنورة ؟ بل ماذا كان فيهما من سياسة الأخلاق وأصول التربية؟؟
لقد كان من مصلحة الإنسانية المجردة أن تختفي هـذه الإمبراطوريات البالية، وهذه النحل المخرفة الجائرة، وأن يطلع الإسلام على الدنيا ليزكيها ويعلي مستواها..