تناقضات.. ومغالطات
عند تأمل الأبعاد المختلفة لقضية تعريب التعليم الجامعي في وضعه الراهن يمكن اكتشاف عدد من التناقضات والمغالطات التي تحتاج إلى وقفة لفحصها ونقدها... ويمكن مناقشة أهم هـذه التناقضات والمغالطات في النقاط التالية:
(1) يمكن تقسيم الدول العربية فيما يتعلق باستعمال اللغة العربية في التعليم والحياة إلى مجموعتين: مجموعة الدول التي استطاعت أن تحافظ على استعمال اللغة العربية في معظم مراحل التعليم وفي الحياة والتعاملات الرسمية، ثم مجموعة الدول التي استطاع المستعمر أن يفرض عليها لغته لدرجة أنها وجدت نفسها بعد الاستقلال ومعظم أفرادها لا يستطيعون أن يتكلموا أو يفهموا لغتهم القومية كما حدث في الجزائر وتونس . ومن الغريب أن المجموعة الأخيرة تقدر ضرورة بذل جهود مضنية ومخلصة لاستعادة مكانة اللغة العربية، في حين أن مجموعة الدول التي حافظت على اللغة العربية طوال فترات الاحتلال، هـي التي تتصاعد فيها الآراء التي تشكك في صلاحية اللغة العربية لاحتواء العلوم الحديثة، وقدرتها على التعبير، ومتابعة التغيرات العالمية السريعة. وخاصة في مجال العلم والتكنولوجيا.
والتفسير الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه لهذا التناقض، هـو أن الدول التي سادت فيها لغات غير لغتها القومية قد أتيحت لها الفرصة لأن تلاحظ [ ص: 92 ] أكثر الأثر الهدام لإهمال اللغة الأم، وأن تؤمن أكثر باستحالة تحقيق الوحدة الثقافية والاستمرارية التاريخية وربط الأجيال الجديدة بواقعها، مما أدى إلى تخبط وفشل عمليات التنمية المتكاملة، في حالة الاستمرار في تجاهل اللغة القومية، والوقوع في مثل هـذا التناقض الغريب ليس نادر الحدوث، فهو شائع على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدول عندما تتجاهل قيمة ما تملكه بالفعل.
(2) مغالطة شائعة أيضا فيما يتعلق باستعمال اللغة العربية يرددها كثير من العلماء، مؤداها أن اللغة العربية عاجزة عن استيعاب التقدم العلمي والمصطلحات العلمية والحضارية التي نشأت في لغات أخرى.
ولن نرد على هـذه المغالطة أو هـذا الخطأ بمحاولة ترديد ما قيل كثيرا عن خصوبة اللغة العربية وغناها وقدرتها غير المحدودة، على استيعاب كل مصطلحات العلم الحديث عن طريق البحث في التراث، أو عن المغالطة بالاستشهاد بعدد غير قليل من المحاولات العلمية الناجحة سواء بذلت بواسطة أفراد أو جماعات أو هـيئات (مثل مجامع اللغة العربية) والتي تم فيها نقل مصطلحات العلم الحديث، والحضارة المعاصرة إلى اللغة العربية.
وأثبتت هـذه المحاولات بالفعل ـرغم وجود بعض نواحي النقص فيهاـ قدرة اللغة العربية - ربما أكثر من لغات أخرى كثيرة - على استيعاب كل مصطلحات الحضارة الحديثة.
كما أننا لن نرد على هـذه المغالطة وهذا الخطأ بمحاولة تذكير القائلين به بما كان عليه الحال في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، [ ص: 93 ] وازدهار العلم والفلسفة العربية عندما كانت اللغة العربية تستوعب العلوم المختلفة، وتمتلك من الغني والخصوبة والتجدد ما يجعلها قادرة على التعبير والتأثير، سواء في العلوم التي نشأت في ظل الحضارة العربية أو التي نقلت إليها عن طريق الترجمة وخاصة العلوم والفلسفة الإغريقية.
كل ذلك ربما كان معروفا تماما للقائلين بعجز اللغة العربية، وإذن ربما يكون مفيدا أكثر أن نحاول اكتشاف الأسباب الدافعة للوقوع في هـذا الخطأ أو هـذه المغالطة، وأعتقد أن الأسباب لا تخرج عن أحد الاحتمالات الآتية:
(أ) أن يكون القائلون بعجز اللغة العربية لا يفهمون لغتهم الأم فهما جيدا، ولا يعرفون قدرتها وإمكاناتها الهائلة، لكنه يجب أن نذكرهم دائما بأنه مهما كان تعمقهم وتبحرهم في اللغات الأجنبية التي يستعلمونها، فسوف يظلون عاجزين عن معرفة كل أسرارها، لأنها رغم كل شيء ليست لغتهم الأم.
(ب) بعض الذين يحاولون استمرار التشكيك في قدرة اللغة العربية ويصرون على استعمال لغات أجنبية - رغم عجزهم الفاضح أحيانا في فهم أسرارها - إنما يحاولون إخفاء تفاهة مضمون ما يقدمونه من مادة عن طريق تغريب الشكل الذي يضعونها فيه.
(جـ) الاحتمال الثالث لتفسير هـذه الظاهرة هـو احتمال الكسل الذي يجعل البعض يقول: ما دمنا نأخذ مضمون ومحتويات العلوم من الخارج فلماذا نتعب أنفسنا ونبدد وقتنا في محاولة نقلها إلى العربية؟ وخطر هـذا الاتجاه ـكما سوف نرىـ أنه لا يدل فقط على الكسل ولكنه يدل أكثر على تجاهل طبيعة التقدم العلمي وارتباطه الوثيق باللغة. [ ص: 94 ]
(3) المغالطة الثالثة الشائعة يقول أصحابها إن استعمال اللغة العربية يعزلنا عن العالم المتقدم ـالمنشئ للعلوم الحديثةـ ويجعلنا غير قادرين على الاتصال بهذا العالم والتأثر به أو التأثير فيه.
وهذه مغالطة من السهل فضحها فسوف نرى كيف أن التأثير في العالم واحتلال مكان بارز فيه، لن يكون إلا عن طريق بناء الوحدة الثقافية للأمة، والارتباط بالجذور التاريخية لها.
كما أن القائلين بهذا الادعاء إنما يخلطون بين استعمال اللغة العربية وتعلم اللغات الأجنبية الحية، فلا أعتقد أن أحدا يمكن أن ينكر فائدة - بل وضرورة - تعليم اللغات الأجنبية الحية بطريقة جادة وعميقة لكل الأجيال الجديدة، لكن ذلك شيء واستعمال اللغة القومية شيء آخر محدود من اللغات الحية، ولو أن الاتصال بالعالم المعاصر يحتم ضرورة التعليم بهذه اللغات لرأينا التعليم في معظم بلاد أوربا يتم بالانجليزية أو الفرنسية، لكن ذلك لا يحدث في الواقع، والمثل الواضح الذي يمكن أن أسوقه هـنا هـو هـولندا ، فالهولنديون يعرفون أن لغتهم ليست هـامة حيث لا يتكلم بها أكثر من خمسة عشر مليونا، ولذلك لا يوجد شاب هـولندي لا يعرف بجانب اللغة الأم لغتين أو ثلاثا من اللغات الحية، ولكن أحدا لا يناقش بالمرة في أن التعليم في جميع مراحله يجب أن يكون باللغة الهولندية، فما بالك باللغة العربية وهي لغة أهم بكثير من اللغة الهولندية باعتبار عدد الناطقين بها، وباعتبار تاريخها وتراثها وحتى باعتبار اعتراف العالم بها.
هذه المغالطة أدت في الواقع إلى معضلة صعبة، ففي مثل هـذا [ ص: 95 ] الوضع المتردد والمهتز لا نحن حققنا الاتصال بالعالم، ولا نحن حافظنا على وحدتنا الثقافية لأننا أهملنا لغتنا القومية ولم نتعمق في تعلم اللغات الأجنبية الهامة..
ثم إن هـذه المغالطة جعلتنا أيضا نقصر في محاولات الترجمة والتعريب للمصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة باعتبار أنه لا مبرر لبذل الوقت والمال والجهد في ذلك، في حين أن كل الدول المتقدمة والتي تعتز بلغاتها القومية تعترف بالترجمة والنقل وسائل فعالة في الاتصال والتبادل بين الحضارات واللغات المختلفة.
(4) المغالطة الرابعة تتعلق بالادعاء القائل: إن التعليم في المرحلة الجامعية، وخاصة في مرحلة الدراسات العليا لا يمكن أن يتم باللغة العربية وهنا تجاهل واضح لنجاح التعليم باللغة العربية في كل مراحل التعليم قبل الجامعة في معظم الدول العربية، وخطورة هـذه المغالطة أنها ترتبط مباشرة بتدهور مستويات التعليم في كثير من الجامعات، فكثير من الأساتذة لا يجيدون اللغات الأجنبية التي يعلمون بها، ومعظم الطلاب يجهلونها جهلا تاما، وذلك يكون على حساب المادة العلمية والمستوى، ويكون على حساب محاولات التأليف في اللغة العربية، ومحاولات الترجمة إليها، ونحصل في النهاية على أجيال غير قادرة على مواصلة التعلم ورفع المستوى العلمي، وملاحقة تطورات العلم والتكنولوجيا لأنها لا تستطيع القراءة في لغات أجنبية، ولا تجد أو لا تؤمن بما هـو متاح في اللغة.
هذا غراس الاستعمار شرقيه وغربيه في أمتنا المحروبة..!! [ ص: 96 ]
التالي
السابق