الفصل الخامس: بين الاعتدال والتطرف
مع أنني حار العاطفة، جياش المشاعر، إلا أنني أفضل الهدوء والتلطف على الشدة والتعسف، وأفرض على نفسي منطق العقل، وربما قسرتها على حكمه وهي له كارهة! وعقبى ذلك حسنة في الدنيا والآخرة!
ولقد دار بيني وبين شاب من العاملين في الميدان الإسلامي حوار قاس، كنت فيه أطيل الاستماع، وأقل التعليق، وفي نهاية المطاف، قلت ما عندي كله..
قال: إنكم تتهموننا بالتطرف فهلا شرحتم موقف الطرف الآخر منا؟ وكشفتم عن مسلكه معنا، أكان معتدلا أم متطرفا؟
إن فلانا فعل بنا كذا وكذا، من سفك وهتك..
[ ص: 109 ]
قلت: إن فلانا هـذا مات من سنين طوال وأفضى إلى عمله، رحمه الله!
فصاح: لا رحمه الله ولا غفر له، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له ما قبل منه! ألم تقرأ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في مثل هـذا الشأن:
( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة: 80).
وحاولت الكلام..! ولكنه مضى يهدر: ماذا تقول في رجل أذل العرب، ومكن لليهود؟ ماذا تقول في رجل ألغى المحاكم الشرعية، والوقف الإسلامي، وحل الجماعات الإسلامية، أو وضع نشاطها تحت الحراسة، وقتل مئات المؤمنين في السجون أشنع قتلة، وعذب الألوف عذابا تشيب له النواصي، وأذل من أعز الله، وأعز من أذل الله، ولم يترك الدنيا إلا بعد أن صبغ وجوه المسلمين بالسواد والخزي؟؟ ومكن لأعداء الله تمكينا ما رأوا مثله من ألف عام!!
قلت له: لا تجتر آلام الماضي، واشتغل بالبناء للإسلام، وليكن ذلك أغلب على فكرك من الانتقام وطلب الثأر.. واستمعوا إلي من يعرفكم بحقائق الإسلام من كبار المربين، وجهابذة العلماء، بدل أن تكتفوا بقراءة مجردة لبعض الكتب..
فقال الشاب في مرارة: كبار العلماء؟ إن أمرا صدر إلى هـؤلاء الكبار باستقبال (( مكاريوس )) جزار الإسلام في قبرص ، فاستقبل بحفاوة في الأزهر الشريف..
وإن أمرا آخر صدر بمنح (( سوكارنو )) وهو شيوعي متبذل، معروف جيدا في أندونيسيا ، شهادة الدكتوراه في الفلسفة فاجتمع هـؤلاء الكبار ومنحوه من الأزهر الشريف هـذه الشهادة!
[ ص: 110 ]
وأمرا ثالثا صدر بوضع الحجر الأساسي لكنيسة، فسارع وكيل الأزهر إلى تلبية إشارة السادة الذين أمروه، ولم يقع في تاريخ الفاتيكان نفسه أن كلف رجل دين كاثوليكي بوضع الأسس لكنيسة تخالف مذهبه!!
وقد سكت أولئك العلماء على مظالم أفقدت الجماهير نخوتها وكرامتها وشجاعتها، ورضوا بمحاربة مظاهر التدين والتقوى مع أننا نواجه دولة دينية أقامت كيانها على أنقاضنا.!
قلت: يا بني ليس كل العلماء كما تصف، وإذا مضيت أنت وصحبك في هـذه السبيل فلن تعودوا..