قادة الأمة..
إن الخوارج قبلكم ركبوا هـذا الشطط، فدفنوا في تراب التاريخ على عجل..
والذين قادوا الرسالة الإسلامية ليسوا ولاة السوء، ولا المعارضين الحمقى! إنما قاد الإسلام العلماء المربون، والفقهاء المخلصون..!
هل أقول: إن اليهود أعقل منكم.
قال: كيف؟
قلت: لما عقدوا أول مؤتمر عالمي لهم في سويسرا كي يقيموا دولتهم، ووصلوا إلى مخطط مدروس، قال رئيسهم (( هـرتزل )): ستقوم ((إسرائيل)) بعد خمسين سنة! وقامت بعد خمسين سنة..!
[ ص: 111 ]
إن الرجل لم يعمل لنفسه ولا لأولاده، إنه يغرس لمدى بعيد، ربما لا يذوق جناه إلا الأحفاد! ليس مهما أن يرى هـو نتاج ما فعل، المهم أن يصل إلى غايته...
وإنما قدر الرجل نصف قرن لأنه يريد الخلاص من مشكلات تراكمت خلال قرون طوال، لا يمكن الخلاص منها بجرة قلم أو بصيحة حماس!!
ومن الظلم أن أحمل الجيل المعاصر أوزار الهزائم الهائلة التي لحقت بنا، إنها حصاد خيانات اجتماعية وسياسية وقعت من زمان غير قصير، فكيف تفكرون في إزالتها بخطط مرتجلة وجهود قاصرة؟
إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم صاح بعقيدة التوحيد كانت مئات الأصنام صفوفا داخل الكعبة وحولها، وقد ظل ثلاثا وعشرين سنة يدعو، تدري متى هـدم هـذه الأصنام؟ في السنة الحادية والعشرين من بدء الدعوة!!
إنه ما فكر حتى في عمرة القضاء أن يمس منها وثنا - أي قبل فتح مكة بسنة - أما أنتم فتريدون الدعوة إلى التوحيد في الصباح، وشن حملة لتحطيم الأصنام في الأصيل! والنتيجة التي لا محيص عنها مصارع متتابعة، ومتاعب متلاحقة، ونزق يحمل الإسلام مغارمه دون جدوى!!
وأريد أن أؤكد للشباب أن إقامة دين شيء، واستيلاء جماعة من الناس على الحكم شيء آخر، فإن إقامة دين تتطلب مقادير كبيرة من اليقين والإخلاص ونقاوة الصلة بالله، كما تتطلب خبرة رحبة بالحياة والناس والأصدقاء والخصوم، ثم حكمة تؤيدها العناية العليا في الفعل والترك السلم والحرب..!
إن أناسا حكموا باسم الإسلام، ففضحوا أنفسهم، وفضحوا الإسلام معهم!!
[ ص: 112 ]
فكم من طالب حكم يؤزه إلى نشدان السلطة حب الذات، وطلب الثناء وجنون العظمة!!
وكم من طالب حكم لا يدري شيئا عن العلاقات الدولية، والتيارات العالمية، والمؤامرات السرية والجهرية!!
وكم من طالب باسم الإسلام وهو لا يعرف مذاهب الإسلاميين في الفروع والأصول، فلو حكم لكان وبالا على إخوانه في المعتقد، يفضلون عليه كافرا عادلا!!
ولقد رأيت ناسا يتحدثون عن إقامة الدولة الإسلامية لا يعرفون إلا أن الشورى لا تلزم حاكما، وأن الزكاة لا تجب إلا في أربعة أنواع من الزروع والثمار، وأن وجود هـيئات معارضة حرام، وأن الكلام في حقوق الإنسان بدعة.. إلخ، فهل يصلح هـؤلاء لشيء؟!
إنني أقوم بالعمل أحيانا، ثم أراجع دوافعه في نفسي، فأشعر أني لم أكن فيه مخلصا كما ينبغي! غلبني حب الدنيا أو الاعتداد بالنفس، فأحس الألم والندم، وأرى أني - بهذا الخلط - لا أصلح لولاية الناس، وجعل كلمة الله هـي العليا.. ذلك أن الله عندما يهلك الظلمة لا يستخلف بعدهم ظلمة مثلهم، إنما يستخلف مسلمين عدولا صالحين، قال تعالى موضحا سبيل من يؤيدهم من خلقه:
( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هـدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون *
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين *
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) (إبراهيم: 12 - 14).
[ ص: 113 ]
هناك نصاب من الكمال النفسي والعقلي لا بد من تحصيله لمن يريد خدمة الدين، وإقامة دولة باسمه، واكتمال هـذا النصاب لا يتم بغته، وإنما يتكون مع سياسة النفس الطويل..
ومعاذ الله أن أتهم غيري بسوء النية، ولكنني أريد تحصين نهضتنا من العلل التي لا تبلغ القصد، ولا تحقق الهدف..