الفريضة.. والنافلة
ومن قبيل الاستهانة بالفروض الكفائية أن رجلا رغب أن يحج نافلة - أظن أن ذلك للمرة الثالثة - فقلت له:
كم تتكلف هـذه الحجة؟ قرابة ألف جنيه؟
قال:
نعم وأكثر!
قلت له:
أدلك على عمل أفضل، إن فلانا تخرج من كلية الصيدلة، وهو فقير والمسلمون فقراء إلى صيدليات إسلامية، فضع في يد الشاب المتخرج هـذا المبلغ يبدأ به حياة تنفعه وتنفع أمته، ولك عند الله ثواب أكبر من ثواب حجتك هـذه!!
فنظر الرجل إلي دهشا وصاح:
أهذا كلام يقال؟
قلت له:
إنك إذا أطعتني أقمت فريضة وسددت ثغرة، وشاركت في جهاد جليل الثمرة... بدل هـذه النافلة التي تبغي..
[ ص: 32 ] قال: وهو لا يزال في دهشته:
أدع الحج! وأعين على فتح صيدلية، ما هـذا؟
إن جمهورا غفيرا من المسلمين لا يدري أبعاد المأساة التي تعيش فيها أمته، ولا مدى التخلف الرهيب الذي يهدد يومها وغدها، ومن ثم فهو يخبط في دينه خبط عشواء..!
وفي مكان آخر من كتبي ذكرت قول الفقهاء: إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، والفريضة المطلوب أداؤها يستوي أن تكون فريضة عينية أو كفائية..!
وقلت:
إذا كان التنفل يعجز عن إحسان واجب فلا مكان له، وضربت مثلا لذلك:
إذا كان صوم التطوع يعجز المدرس عن تصحيح ورقة إجابة بدقة فلا ينبغي له أن يصوم، وكذلك إذا كان شيء من ذلك يعجز الطبيب عن إجادة فحص المريض، أو تصوير الموضع المصاب، أو كتابة الدواء اللازم..!!
إن الله سبحانه أعفى جمهور المؤمنين من قيام الليل وطول القراءة فيه، إذا كانوا يعانون من الجهاد في سبيل الله، أو طلب الرزق من هـنا ومن هـناك.
( والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) (المزمل: 20).
ولقد كان ابن مسعود يؤثر الإفطار على الصيام - صيام التطوع - لأن الفطر أعون له على قراءة القرآن، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يتأنق في تلاوته، وكان الناس يأخذون القرآن عنه...
[ ص: 33 ]
والواقع أن العبادات العينية أو الكفائية وسائل لتزكية الفرد ورفعة المجتمع، والمؤمن الحصيف يقبل على ما يلائمه من هـذه وتلك، دون محاولة للفرار من واجب يتعين عليه.
فالغني عبادته الأولى: البذل وإسعاف المحتاجين، ولا يصلح له الصيام وقيام الليل، إذا كان الصيام والقيام مهربا له من الإنفاق في سبيل الله.
والقارئ الفقيه عبادته الأولى: النصح وتعليم الخاصة والعامة، ولا يصلح له الاعتكاف، والخروج بالصمت عن ((لا)) و ((نعم)) في مواطن الأمر والنهي و شيوع الفتن...!