مظاهر التطـرف
فما التطرف إذن، وما دلائله ومظاهره؟
التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر:
1- إن أولى دلائل التطرف: هـي التعصب للرأي تعصبا لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جمودا لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهانا، وأرجح ميزانا.
ونحن هـنا ننكر على صاحب هـذا الاتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إنما ننكر عليه حقا، إذا أنكر الآراء المخالفة ووجهات النظر الأخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضلال، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبيا معصوما، ومن قوله وحيا يوحى! مع أن [ ص: 39 ] سلف الأمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجيب أن من هـؤلاء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعوص المسائل، وأغمض القضايا، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي، وافق فيه أو خالف، ولكنه لا يجيز لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله، هـي غاية في العجب، لا يبالي أن يشذ فيها عن كافة السابقين واللاحقين، والمحدثين والمعاصرين؛ لأن رأسه برأس أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن عباس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال! وليته يعدي هـذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه، من لا يرى رأيه، ولا يتبع نهجه من أهل العلم، بيد أنه لا يتعدى نفسه، وكل الصيد في جوف الفرا!
فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هـو الذي نراه من دلائل التطرف حقا، فالمتطرف كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقي أن أقود.. ومن واجبك أن تتبع.. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب.. وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبدا، لأن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، لا تقترب من أحدهما إلا بمقدار ما تبتعد من الآخر.
ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا [ ص: 40 ] الغليظة، والعصا الغليظة هـنا قد لا تكون من حديد ولا خشب، فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين، أو بالكفر والمروق - والعياذ بالله - فهذا الإرهاب الفكري أشد تخويفا وتهديدا من الإرهاب الحسي.
التالي
السابق