اتباع المتشابهات وترك المحكمات
ولا بد لنا أن نشير هـنا إلى سبب أساسي وراء الغلو والانحراف في فهم الدين قديما وحديثا، وهو: اتباع المتشابهات من النصوص، وترك المحكمات البينات، وهذا لا يصدر من راسخ في العلم، إنما هـو شأن الذين في قلوبهم زيغ
( فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) (آل عمران:7) .
وأعني بالمتشابه: ما كان محتمل المعنى، وغير منضبط المدلول، وأعني بالمحكم: البين المعنى، الواضح الدلالة، المحدد المفهوم.
فترى الغلاة والمبتدعين من قديم يجرون وراء المتشابهات، يملئون بها جعبتهم، ويتخذون منها عدتهم، معرضين عن المحكمات وهي التي فيها القول الفصل، والحكم العدل.
[ ص: 84 ]
وانظر إلى غلاة اليوم تجدهم يعتمدون على المتشابهات في تحديد كثير من المفاهيم الكبيرة التي رتبوا عليها نتائج خطيرة، بل بالغة الخطر، في الحكم على الأفراد والجماعات، وتقويمهم، وتكييف العلاقة بهم من حيث الولاء والعداء، والحب والبغض، واعتبارهم مؤمنين يتولون، أو كفارا يقاتلون.
وهذه السطحية في الفهم، والتسرع في الحكم، وخطف الأحكام من النصوص خطفا دون تأمل ولا مقارنة - نتيجة لترك المحكمات البينات، واتباع المتشابهات المحتملات - هـي التي جعلت طائفة
الخوارج قديما تسقط في ورطة التكفير لمن عداهم من المسلمين، وتقاتل رجل الإسلام العظيم
على بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد كانوا جنودا في جيشه، مستندين إلى أفهام عجيبة، بل أوهام غريبة، في دين الله تعالى.
قبل علي كرم الله وجهه التحكيم في النزاع الذي بينه وبين خصومه، حقنا لدماء المسلمين، ومحافظة على وحدة جيشه، حيث كان فيه من يرى وجوب القبول؛ فظهر هـؤلاء الحمقى يتهمونه -وهو الذي نشأ في نصرة دين الله منذ صباه- بالخروج من الدين؛ لأنه حكم الرجال في دين الله. ورددوا كلمتهم المعروفة: لا حكم إلا لله! معتمدين على ظاهر القرآن الكريم حيث يقول:
( إن الحكم إلا لله ) (يوسف:40) .
وكان رد الإمام علي عليهم بكلمته التاريخية المأثورة: " كلمة حق يراد بها باطل! "
ذلك أن رد الحكم إلى الله وحده - سواء كان حكما كونيا أو شرعيا، بمعنى أن التدبير لله والتشريع لله وحده - لا يعني إبطال تحكيم البشر في
[ ص: 85 ] القضايا الجزئية التي يتنازع الناس فيها ما دام تحكيمهم في إطار حكم الله وتشريعه.
وقد ناقش حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هـؤلاء القوم، وحجهم بما في كتاب الله من صور التحكيم.
من ذلك التحكيم بين الزوجين لحل عقدة الخلاف بينهما
( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) (النساء:35) .
ومن ذلك التحكيم في تقدير " مثل الصيد " يقتله محرم متعمدا
( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هـديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين ... ) (المائدة:95) .
فمن لم يحسن الفهم عن الله ورسوله فيما جاء من آيات أو من أحاديث، ولم يقف طويلا عندها دارسا فاحصا، متأملا متفقها، جامعا بين أولها وآخرها، وموفقا بين مثبتها ونافيها، ومقارنا بين خاصها وعامها، أو بين مطلقها ومقيدها، مؤمنا بها كلها، محسنا الظن بها جميعا - محكمها ومتشابهها - من لم يفعل ذلك فما أسرع ما تضل راحلته، ويعمى عليه طريقه، وتضيع منه غايته فيشرق مرة ويغرب أخرى على غير بصيرة، ويخبط خبط عشواء في ليلة مظلمة.
وهذا هـو الذي وقع فيه دعاة التكفير حديثا، ووقع فيه
الخوارج قديما. والسبب الأساسي لهذا الغلو - كما ذكر
الإمام الشاطبي - هـو الجهل
[ ص: 86 ] بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم؛ ألا ترى إلى
الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم
( يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ) يعني - والله أعلم - أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم؛ لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وهذا يقف عند محل الأصوات والحروف فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم. وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام :
( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ) إلى آخره..
وقد وقع
لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه، " فخرج
أبو عبيد في فضائل القرآن،
وسعيد بن منصور في تفسيره عن
إبراهيم التيمي قال: خلا
عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هـذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هـذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة - زاد سعيد: وكتابها واحد؟ - قال: فقال
ابن عباس : يا أمير المؤمنين: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان كذلك اختلفوا.
وقال سعيد: فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا! قال: فزجره عمر وانتهره علي.. فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه.. فأرسل إليه وقال: أعد علي ما قلته، فأعاد عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه. "
[ ص: 87 ]
قال العلامة
الشاطبي :
وما قاله
ابن عباس رضي الله عنهما هـو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآي أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها، فذهب كل إنسان فيها مذهبا لا يذهب إليه الآخر، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا، إذ لا دليل عليه من الشريعة، فضلوا وأضلوا.
ومما يوضح ذلك ما خرجه
ابن وهب " عن
بكير أنه سأل
نافعا : كيف رأي
ابن عمر في الحرورية؟ (هم الخوارج، نسبوا إلى حروراء، المكان الذي تجمعوا عنده وقاتلهم هـناك علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم ) قال: يراهم شرار خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.. " فسر
سعيد بن جبير من ذلك فقال: مما يتبع
الحرورية من المتشابه قول الله تعالى:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة:44) ويقرنون معها
( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) (الأنعام:1) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون، فيخرجون فيقتلون ما رأيت لأنهم يتأولون هـذه الآية. فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
[ ص: 88 ] " وقال
نافع : إن
ابن عمر كان إذا سئل عن
الحرورية قال: يكفرون المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، وينكحون النساء في عددهن، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم. " (الاعتصام: 2/182-184) .