لا تقابلوا التكفير بتكفير مثله ...
ومما أؤكد التحذير منه، والتنبيه على خطره: أن نقابل التطرف الفكري بتطرف فكري مماثل: فنواجه التعصب بتعصب، والرفض بالرفض، والبادي أظلم، كما قيل!
ومن ذلك: أن نتهم الذين كفروا الناس بالكفر أيضا، على حد قول من قال: من كفرنا كفرناه، وربما استدل بعضهم بالحديث القائل: من كفر مسلما فقد كفر .
فالحق أننا لو فعلنا ذلك لوقعنا في نفس الهاوية التي وقعوا فيها..
[ ص: 146 ] والحديث لا يشمل من كفر مسلما بنوع تأويل وشبهة قامت لديه، كما دلت على ذلك أحاديث صحيحة، ووقائع ثابتة عن الصحابة رضي الله عنهم .
ولنا في أمير المؤمنين
علي رضي الله عنه أسوة حسنة، في موقفه من
الخوارج الذين قاتلوه واتهموه بأشنع ما يتهم به مسلم عادي، فكيف بعلم الأعلام، وفارس الإسلام, زوج البتول، وابن عم رسول صلى الله عليه وسلم وسيف الحق المسلول؟
بيد أنه رضي الله عنه وكرم الله وجهه، أنكر عليهم باطلهم دون أن يقابل تهمتهم بمثلها، أو يكفرهم كما كفروه، بل استبقاهم في دائرة الإسلام, إحسانا للظن بهم، وحملا لحالهم على أحسن المحامل.
" وسأله بعض الناس عن الخوارج: أكفار هـم؟ فكان جوابه: من الكفر فروا.. قيل له: فما هـم؟! قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم! "
فلهم إذن حكم البغاة المناوئين، لا حكم الكفار المرتدين.
والبغاة هـم الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل وشبهة عندهم.
وهؤلاء إذا كانوا ذوي شوكة وشهروا السلاح في وجه الإمام، فلا ينبغي أن يبادرهم بالقتال، بل عليه أن يرسل إليهم من يزيح عنهم الشبهة، ويقيم عليهم الحجة، ويجادلهم بالتي هـي أحسن، حقنا لدماء المسلمين، وجمعا لكلمتهم، ما وجد إلى ذلك سبيلا.
فإن أصروا على موقفهم، وأبوا إلا القتال، قوتلوا حتى يفيئوا إلى أمر الله. وفي المعركة: لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا تسبى نساؤهم، ولا تغنم أموالهم. فإنما هـم مسلمون، يقاتلون لدفع أذاهم، وردهم إلى حظيرة الوحدة، لا لاستئصال شأفتهم، وإبادة خضرائهم.
[ ص: 147 ]
فإذا كفوا أيديهم وأعلنوا الطاعة في المعروف، وجب الكف عنهم، وإن بقوا على رأيهم. إن الآراء لا تنزع من العقول بالقتال، ولا تفرض على الناس بالسيف.
وقد ورد عن
الإمام علي هـنا أيضا موقف جدير أن يروى وينشر، لما فيه من برهان على أن حرية الرأي - ورأي المعارضة على الخصوص - بلغت في فجر الإسلام مبلغا لم يرتق إليه العالم إلا بعد قرون وقرون.
فقد أنكر
الخوارج على
علي رضي الله عنه رضاه بالتحكيم، فقالوا كلمتهم المعروفة: " لا حكم إلا لله " فرد عليهم بقوله التاريخي البليغ: " كلمة حق يراد بها باطل " !
ومع إنكارهم عليه، ومعارضتهم له " قال لهم في صراحة وجلاء:
" لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم من المساجد.. ولا من رزقكم من الفيء.. ولا نبدأكم بقتال، ما لم تحدثوا فسادا " .
" فضمن لهم حرية العبادة في مساجد المسلمين، وإن خالفوا جمهورهم في الرأي.. كما ضمن لهم حقوقهم في الفيء ونحوه.. وألا يشهر عليهم سلاح ما لم يبدؤوا هـم بالعدوان وإحداث الفساد.
هذا مع أن كل واحد من هـؤلاء المعارضين إنما هـو جندي مسلح مدرب قادر على القتال في أي لحظة بحكم طبيعة حياتهم في ذلك الزمان.
ومما ينبغي التنويه به في هـذا المقام: أن جمهرة المحققين من علماء المسلمين تورعوا عن تكفير "
الخوارج " برغم إصرارهم على تكفير كل من عداهم من الأمة، واستباحة دمائهم وأموالهم، وحملهم السلاح عليهم،
[ ص: 148 ] ومع ما صح فيهم من الأحاديث التي وصفتهم بالمروق من الدين، وأمرت بقتالهم وقتلهم.
قال
الإمام الشوكاني في
>[1]
ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن
الخوارج مسلمون، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام, وإنما فسقوا بتكفير المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
وقال
الخطابي : أجمع علماء المسلمين على أن
الخوارج مع ضلالهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحاتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام.
وقال
عياض : كادت هـذه المسألة أن تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي عنها، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة، وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين. قال: وقد توقف القاضي أبو بكر الباقلاني. قال: ولم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر.
وقال
الغزالي في كتاب " التفرقة بين الإيمان والزندقة " : ينبغي الاحتراز عن التفكير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد.
[ ص: 149 ]
وقال
ابن بطال : ذهب جمهور العلماء إلى أن
الخوارج غير خارجين من جملة المسلمين ، قال: " وقد سئل
علي عن أهل النهروان (وهم خوارج) : هـل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا. "
وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي، إذا شقوا العصا، ونصبوا الحرب.
قال العلماء: وباب التكفير باب خطر ولا نعدل بالسلامة شيئا.