فقه الجزئيات في ضوء الكليات
أولا: إن معرفة الشريعة لا تتم بمجرد معرفة نصوصها الجزئية متفرقة متناثرة، مفصولا بعضها عن بعض، بل لا بد من رد فروعها إلى أصولها،
[ ص: 151 ] وجزئياتها إلى كلياتها، ومتشابهاتها إلى محكماتها، وظنياتها إلى قطعياتها، حتى يتألف منها جميعا نسيج واحد مرتبط بعضه ببعض، متصل لحمته بسداه، وممبدؤه بمنتهاه.
أما أن يعثر على نص من حديث نبوي, يفيد ظاهره حكما، فيتشبث به، دون أن يقارنه بالأحاديث الأخرى، وبالهدي النبوي العام، وبهدي الصحابة والراشدين، بل دون أن يرده إلى الأصول القرآنية نفسها، ويفهمه في ضوء المقاصد العامة للشريعة، فلن يسلم من الخلل في فهمه، والاضطراب في استنباطه، وبذلك يضرب الشريعة بعضها ببعض, ويعرضها لطعن الطاعنين، وسخرية الساخرين.
ولهذا اشترط
الإمام الشاطبي في موافقاته لتحقيق الاجتهاد في الشريعة: المعرفة بمقاصدها وكلياتها، قال: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحد هـما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها
>[1]
وهذا لا يتأتى إلا بسعة الاطلاع على النصوص، وخاصة الأحاديث والآثار، والتعمق في معرفة أسباب ورودها، وملابسات وقوعها، والغايات المتوخاة منها، والتمييز بين ما هـو عام خالد منها، وبين ما بني منها على عرف قائم, أو ظرف زمني موقوت، أو مصلحة معينة, فيتغير بتغيير العرف أو الظرف أو المصلحة. انظر كتابنا " شريعة الإسلام " .
كنت في إحدى الندوات أتحدث عن الزي الشرعي للمرأة المسلمة،
[ ص: 152 ] في ضوء ما جاء في القرآن والسنة، فقام أحدهم, وقال: يجب أن يكون من زي المسلمة جلباب تدني منه عليها، ويعني بالجلباب: ثوبا خارجيا إضافيا كالعباءة أو الملاءة ونحوها.
قلت له: الجلباب ليس غاية في ذاته، ولكن المهم هـو اللباس السابغ الساتر، لكل ما أمر الله بستره، أيا كان اسمه أو شكله، فهذه وسيلة تختلف باختلاف البيئات والأزمان.
بيد أن صاحبي صاح في وجهي كالحمل الهائج، قائلا: ولكن هـذه وسيلة نص عليها القرآن في قوله تعالى:
( يدنين عليهن من جلابيبهن ) (الأحزاب: 59) ، فليس من حقنا أن نبدلها بغيرها.
قلت له: إن القرآن الكريم قد ينص على بعض الوسائل، لأنها هـي القائمة والمعمول بها في وقت نزوله، لا ليتعبدنا باتخاذها أبد الدهر، فإذا وجد ما هـو مثلها أو خير منها فلا حرج في تركها واتخاذه، ويكفي أن أضرب مثلا قول الله تعالى:
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (الأنفال:60) ، فإنما نص على رباط الخيل لأنه إحدى الوسائل القوية المعروفة في ذلك الوقت، ولا حرج على المسلمين في عصرنا، وقبل عصرنا، إذا ما أعدوا بدل رباط الخيل، رباط الدبابات والمدرعات وغيرها، ما دامت تحقق الهدف الذي أومأت إليه الآية الكريمة، وهو إرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين.
ومثل هـذا يقال في لبس الجلباب فيمكن أن يستبدل به أي لباس آخر ما دام يحقق الهدف الذي أشارت إليه الآية كذلك في قوله تعالى:
( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) (الأحزاب: 59) .
[ ص: 153 ]
وإذا كان مثل هـذا وقع في القرآن الذي طابعه الشمول والخلود، فإن وقوع أمثاله في السنة أكثر وأكثر، لأن فيها ما هـو تشريعي، وما هـو غير تشريعي، ومنها ما هـو تشريع خاص، وما هـو تشريع عام، ومنها ما هـو ثابت دائم، وما هـو قابل للتغير بتغير موجباته وأسبابه.
ففي قضايا الأكل والشرب واللبس مثلا، نجد فيها سننا تشريعية، وسننا غير تشريعية، فمن غير التشريعية - فيما أرى - الأكل باليد دون استعمال أداة كالملعقة ونحوها، فقد كانت هـذه هـي عادة العرب وطريقتهم، وهي الأقرب إلى فطرتهم، وبساطة معيشتهم، ولكن هـذا لا يعني أن الأكل بالملعقة بدعة أو حرام أو مكروه، وخصوصا إذا تيسرت هـذه الوسائل لكل الناس، ولم يعد استعمالها دليلا على سرف أو ترف، كما في ملاعق الذهب والفضة وأوانيهما التي حرمها الإسلام.
وهذا بخلاف الأكل باليمين والشرب باليمين، فالتشريع في هـذا واضح، ولهذا جاء الأمر به
( سم الله وكل بيمينك ) >[2] والتحذير من ضده
( لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ) >[3] ويقصد التشريع في السنة هـنا إلى خلق آداب إسلامية مشتركة ذات اتجاه متميز، ومن ملامح هـذا الاتجاه: الحرص على التيامن في كل شيء.
ومن ذلك أن المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا المناخل قط، وكانوا يعجنون الدقيق خشنا دون أن ينخلوه، ثم عرفوا المناخل بعد ذلك واستخدموها، فهل يعد ذلك من البدع المحرمة أو حتى المكروهة؟ كلا ...
[ ص: 154 ]
ومن ذلك موضوع " الثوب القصير " الذي تشبث به كثير من الشباب المتدين، وأصروا على لبسه، وإن جر عليهم متاعب جمة، كأنما هـو من شعائر الإسلام، أو من فرائضه اللازمة.
وحجتهم في كونه ثوبا: أن هـذا هـو لبس النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبس أصحابه، وأن الأزياء الأخرى تجرنا إلى التشبه بالكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم، أما حجتهم في تقصيره، فهو ما ورد من أحاديث في التحذير من إسبال الإزار أو الثوب، كحديث
( وما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار ) .
أما الاحتجاج للبس الثوب بفعله صلى الله عليه وسلم ، فالثابت من هـديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يلبس ما تيسر له، ولهذا لبس القميص، ولبس الرداء والإزار، ولبس الحلل والبرود اليمنية، ولبس جبة كسروانية مكفوفة بالحرير، وغير ذلك مما كان معروفا في زمنه، وسهل عليه اقتناؤه، كما أنه لبس على رأسه العمامة تحتها القلنسوة، ولبس القلنسوة بغير عمامة.
قال
الإمام ابن القيم في " الهدي النبوي " :
" إن أفضل الطريق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم , التي سنها، وأمر بها، ورغب فيها، وداوم عليها، وهي أن هـديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة... ولبس البرود اليمانية، والبرد الأخضر، ولبس الجبة، والقباء، والقميص، والسراويل والرداء، والخف والنعل ... وأرخى الذؤابة من خلف تارة، وتركها تارة ... "
>[4] [ ص: 155 ]
ولم يكن عند القوم غزل ولا نسج ولا خياطة، بل كانوا يلبسون ما يجلب إليهم من البلاد الأخرى التي تصنع هـذه الأنواع من الملابس،
كاليمن ومصر والشام .
وها نحن نلبس من الألبسة الداخلية ما لم يكن معروفا على عهده صلى الله عليه وسلم ، ونغطي رءوسنا بما لم يكونوا يغطونها بمثله، ونلبس في أرجلنا من الجوارب والأحذية ما لم يكونوا يلبسون، ولا يرى أحد في ذلك بأسا فلماذا التشدد في أمر الثوب وحده؟..
وأما التشبه بالكفار، فالممنوع منه ما كان من خصائصهم المميزة لهم باعتبارهم أصحاب دين مخالف، كلبس الصليب مثلا، وهو من خصائص
النصارى ، وارتداء ملابسهم الكهنوتية المميزة، ويدخل في ذلك الاحتفال بأعيادهم الدينية، ونحو ذلك مما فصله شيخ الإسلام
ابن تيمية في كتابه القيم: " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم " .
وما عدا هـذه الأمور الشاخصة البارزة، فالمدار فيه على النية والقصد، فمن قصد إلى التشبه بهم باعتبارهم مخالفين لدينه، فهم مؤاخذ بنيته وقصده، ومن لم يخطر التشبه بباله، بل البيئة التي نشأ فيها فقط، أو أخذ بما هـو أيسر عليه، أو أعون على مهمته، كالعامل أو المهندس الذي يلبس ما يسمونه " الأفرول " في مصنعه أو مجال عمله، فلا حرج عليه، ولكل امرئ ما نوى.
هذا وإن كان من المستحسن دائما أن يتميز المسلم عن غيره في كل أمور حياته المادية والمعنوية، ما وجد إلى ذلك سبيلا.
أما تقصير الثوب فهو مستحب، ولكن تطويله ليس بحرام إذا كان مجرد عادة وليس على سبيل الخيلاء، كما أشرنا من قبل.
[ ص: 156 ]
والأمثلة التي ذكرتها تتعلق كلها بالسلوك الشخصي للأفراد، ولهذا يعتبر الأمر فيها سهلا، بالنسبة لغيرها، من الأمور التي تتعلق بعموم المجتمع، أو شئون الدولة، أو العلاقات الدولية، وهنا يكمن الخطر على الجماعة والدولة والإنسانية، إذا لم يرزق المجتمع بفقه نير بقدر للحاجات البشرية والمصالح الاجتماعية قدرها.
فحين ندعو إلى استئناف حياة إسلامية حقيقة، يقوم عليها مجتمع إسلامي متكامل، تقوده دولة إسلامية معاصرة، تتعامل مع عالم متشابك العلاقات، متعدد المذاهب، تقاربت فيه المسافات والحواجز، حتى أصبح كأنه بلد واحد.. يجب علينا أن ندرك أن في المجتمع القوي والضعيف، والرجل والمرأة، والشيخ، والطفل، وفيه الظالم لنفسه بجوار المقتصد والسابق بالخيرات، فيلزمنا أن نراعي هـؤلاء في التوجيه والإفتاء والتشريع.
قد يشدد الفرد على نفسه، ويأخذ بأشد الآراء تزمتا واحتياطا، فيحرم على نفسه اللهو والغناء والموسيقى، والتصوير كله، حتى الفوتوغرافي والتليفزيوني، ونحو ذلك، ولكن هـل تستطيع دولة معاصرة أن تقوم على ذلك؟ وهل تقوم صحافة مقروءة لها وزنها في عالم اليوم بغير التصوير؟ وهل تستغني وزارات الداخلية وإدارات الهجرة والجوازات وتحقيق الشخصية، والمرور، والمدارس والجامعات وغيرها عن الصور والتصوير اليوم، وقد أصبح وسيلة هـامة لمنع التزوير وضبط المزورين؟
وهل تستطيع دولة اليوم أن تتجاهل عصرها، وتحرم شعبها من هـذا الجهاز العجيب الذي يضع أحداث العالم كله بين يديك، تشاهدها كأنك
[ ص: 157 ] تعايش أصاحبها في الشرق والغرب، وأنت على مقعدك أو في سريرك، لم تتحرك يمنة ولا يسرة؟ هـل يسع دولة مسلمة معاصرة أن تكتفي بالإذاعة، وترفض " التلفزة " لأنها تقوم على " التصوير " وهو حرام، كما يرى بعض إخواننا من طلبة العلم الديني إلى اليوم؟
والذي أؤكده هـنا: أن تشديد المرء على نفسه في سلوكه الشخصي يمكن أن يحتمل، وأن يقبل، ولكن الذي لا يحتمل ولا يقبل أن يفرض هـذا على المجتمع كله، بجميع فئاته، وتنوع مستوياته، وعلينا هـنا أن نتمسك بالتوجيه النبوي الكريم:
( من أم الناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف، والمريض وذا الحاجة ) وهذا وإن ورد في إمامة الصلاة، فإنه بفحواه دليل هـاد لمن قاد الناس في أي جانب من جوانب الحياة.