[3] إنصاف القـادة:
لم تجحد أمة من الأمم قادتها العسكريين، كما جحدت الأمة العربية والإسلامية قادتها العسكريين، فقد لاقى القادة العرب والمسلمون عقوقا وجحودا من أمتهم بشكل منقطع النظير بين سائر الأمم الأخرى.
وقد عكف المؤلفون القدامى من العرب والمسلمين، على تأليف كتب الطبقات من كل صنف ونوع، إلا القادة العسكريين، فلم يكن لهم نصيب أي نصيب في كتب الطبقات على الرغم من كثرتها وتعدد أصنافها وأنواعها بما لا مزيد عليه.
فهناك كتب طبقات المحدثين، وكتب طبقات المفسرين، وكتب [ ص: 70 ] طبقات الفقهاء في شتى المذاهب الإسلامية، وكتب طبقات الأدباء، وكتب طبقات الشعراء، وكتب طبقات النحاة، وكتب طبقات الصوفية، وكتب طبقات الأطباء، وحتى كتب طبقات المغنين... وغيرهم كثير..
أما كتب طبقات القادة العسكريين، فلا ذكر لهم في كتب الطبقات!!!
وربما يزعم من يزعم، أن ذكر القادة العسكريين العرب المسلمين قد ورد في المصادر التاريخية وطبقات المحدثين وغيرها من المصادر الأخرى ولكن ما ورد عنهم في تلك المصادر نزر قليل من جهة، وموزع على عشرات المصادر من جهة أخرى، وكل مصدر يذكرهم بالنسبة لاختصاص ذلك المصدر فحسب.
ولا أعتقد أن كتب مصادر الطبقات التي دونت تاريخ الرجال العرب المسلمين الأعلام، من مختلف الصنوف والأنواع في مختلف العلوم والآداب والفنون، أكثر أهمية من القادة العسكريين عامة، وقادة الفتح الإسلامي وقادة استعادة الفتح الإسلامي خاصة؛ لأنهم فتحوا البلاد وحملوا الإسلام إليها بالفتح، ولم يحملوهم على الإسلام بذلك الفتح؛ ولأنهم نشروا اللغة العربية في البلاد المفتوحة، فلم يمض زمن قصير إلا ونبغ من سكان البلاد المفتوحة علماء أعلام في العربية يتعلمون بها ويعلمون، ويكتبون بها ويؤلفون، ويخطبون بها ويتكلمون.
وهذه الأعمال الباهرة التي قدمها القادة العرب المسلمون لعقيدتهم ولغتهم وأمتهم، ينبغي أن تذكر لهم بكثير من العرفان، وتسجل في سيرة كل واحد منهم بالفخر والاعتزاز، في صفحات مشرقة بالنور من صفحات الرجال الأفذاذ.
أليس من الغريب حقا والمخجل أيضا، أن تخلو كتب الطبقات العربية [ ص: 71 ] الإسلامية القديمة على كثرتها وتنوعها بحيث تضيق عن الحصر وتصعب في التصنيف، من كتاب واحد عن: قادة الفتح الإسلامي!!!
وجاء الاستعمار القديم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، فوجد الجو مناسبا لطمس أسماء القادة العرب والمسلمين من مناهج التدريس في المعاهد والجامعات، وإبراز القادة الأجانب في تلك المناهج، فتخرج التلاميذ والطلاب في تلك المؤسسات التعليمية وهم جيل الاستعمار القديم، يجهلون حتى مجرد أسماء قادتهم الذين فتحوا بلادهم وحملوا إليها الإسلام دينا والعربية لغة، لأنهم شغلوا عن قادتهم الغر الميامين بقادة الاستعمار القديم، فأصبحوا يعرفون عن نابليون بونابارت (مثلا) كل شيء ويجهلون عن خالد بن الوليد كل شيء!!
ولم تقتصر الجهود الاستعمارية على طمس أسماء القادة العرب المسلمين وسير حياتهم على المؤسسات التعليمية المدنية، بل شملت المؤسسات العسكرية العربية والإسلامية أيضا، بل كانت الجهود الاستعمارية في المؤسسات التعليمية العسكرية أدهى وأمر وأشهد إمعانا في التخريب مما كانت عليه في المؤسسات التعليمية المدنية، فقد كان يدرس في المؤسسات التعليمية العسكرية العربية الإسلامية في مادة: (تاريخ الحرب) ، سير قادة الاستعمار الأجنبي الذين قادوا الحملات العسكرية لاكتساح البلاد العربية والإسلامية واستعبادها وإذلالها والاستحواذ على خيراتها، فكان يدرس في الكلية العسكرية العراقية الملكية للطلاب الذين يصبحون ضباطا بعد تخرجهم في تلك الكليات، معارك استعمار العراق في الحملة البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى بأسلوب يبهر الطلاب [ ص: 72 ] العسكريين بمزايا القادة البريطانيين الأجانب وبعقيدتهم العسكرية الأجنبية في القتال!!
والمعنويات العالية، هـي التي تقود العسكري إلى النصر، ولا نصر مع المعنويات المنهارة، والضابط العربي المسلم يتخرج في كليته العسكرية محطم المعنويات مشلول الإرادة، مبهورا بالعقيدة العسكرية التي تحتل بلاده وبالعسكريين الذين اغتصبوها، يؤمن بأن الأجنبي متفوق عليه عسكريا وفكرا وعقيدة فلا مجال للحاق به أو منافسته، وليس له إلا أن يستخذي للمستعمر ويستجدي رحمته وعطفه ويستسلم له، وهنا بيت القصيد.
ومضى الاستعمار القديم إلى غير رجعة، فاستقلت الدول العربية الإسلامية بخروج الاستعمار القديم ورحيله عنها، ولكنها بقيت تعاني عقابيل الاستعمار الفكري الذي لا يزال معشعشا فيها، وابتليت بالاستعمار الحديث بعد أن تخلصت من الاستعمار القديم، إذ خرج القديم من الأبواب ودخل الحديث من النوافذ، وبقي جيل الاستعمار القديم مسيطرا على التعليم والمؤسسات التعليمية، ينفث سموم ما لقنه المستعمر في عقول التلاميذ والطلاب.
أليس من المذهل حقا أن أوجه هـذا السؤال إلى معارفي من المثقفين، ومنهم أساتذة للتاريخ في الجامعة: ما اسم القائد الذي فتح المدينة التي نعيش فيها؟ فلم أسمع جوابا!! أو سمعت جوابا بعيدا عن الصواب!
ذلك هـو مبلغ ما وصل إليه العرب والمسلمون من عقوق شنيع قادتهم، وهذا هـو الواقع المرير. [ ص: 73 ]
التالي
السابق