الإبـداع بعد الانتقـاء...
لكن العقل المسلم لم يقف عند هـذا الحد.. كانت هـنالك وظيفة أخرى تنتظره وتعد بمثابة النتيجة المحتومة لشروط قد توفرت سلفا ولقد أحسن تنفيذها حقا: الإضافة والتجديد والإغناء وإعادة التركيب لمعطيات حضارية كانت بأمس الحاجة للتغيير والتبديل وتوسيع نطاق البناء بعد إذ لم تعد صالحة تماما لحاجات العصر الجديد، ومطالب الإنسان المؤمن الجديد.
إن كثيرا من القيم الحضارية القديمة كانت يومها قد أصبحت أمرا " رجعيا " وكانت حركة الإسلام " التقدمية " تقضي بضرورة تغييرها واستبدالها بعناصر جديدة أكثر صلاحية وانسجاما مع إيقاع الحياة التي صاغها الإسلام..
ليس هـذا فحسب بل إن العقل الإسلامي المتحضر قدر على أن يكتشف ويبتكر عناصر وقيما حضارية جديدة بالكلية، وأن يقدمها للعالم ثمارا يانعة لجهده الخاص فليس كل ما صنعه المسلمون هـو حماية التراث الحضاري القديم وإعادة شرحه وتفسيره وإضافة بعض
[ ص: 73 ] الشروح والهوامش عليه.. وكأن ذلك التراث هـو الطريق الوحيد لكل إبداع حضاري، وكأنه حتمية مقفلة لن يستطيع عقل أن يشذ على مواضعاتها، وخرج عن حدودها المرسومة..
لقد أبدع العقل الإسلامي، ابتداء، قيما جديدة، وابتكر واكتشف الكثير الكثير من المعطيات والنظم الحضارية التي كانت بمثابة الأسس التي بنت عليها فيما بعد حضارات أخرى في مشارق الأرض ومغاربها..
وهكذا فإن الدور " الإغنائي " للحضارة الإسلامية يتوجب أن يعالج من خلال هـذا المنظور الواسع وألا يغمط حقه وهو يقلص، لهذا السبب أو ذاك، لكي يغدو مجرد تابع أمين وذكي لمعلمي
اليونان القدماء، قدير على فهمهم وطاعتهم وشرح غوامضهم.. وليس ثمة وراء هـذا أية محاولة للنقض والهدم والتبديل.. أو لإبداع قيم ومعطيات وتقاليد جديدة لا علاقة لها البتة بحضارات الأقدمين.
ولقد كانت الرؤية الجديدة قديرة على التألق والابتكار.. وكان العقل الإسلامي جديرا بالمهمة.. وهكذا صنع الذي صنع..
والشهادات عن دور العقل الإسلامي في إغناء الحضارات البشرية، والإضافة عليها، وارتياد الآفاق المجهولة، واكتشاف القيم المعرفية والتجريبية الجديدة كثيرة غزيرة.. صدرت عن كتاب ودارسين وعلماء وأكاديميين شرقا وغربا بحيث يصعب على المرء أيها يأخذ وأيها يدع.. ولكن لا بأس في اقتباس نماذج فحسب من هـذا الخضم العميق لكي تكون بمثابة مؤشرات على درب العطاء الطويل..
[ ص: 74 ] لويس يانغ :
(... إن تطوير المسلمين للتراث اليوناني هـو واحد من أهم حلقات التاريخ الثقافي في العالم، وليس معنى ذلك أن الحضارة الإسلامية كانت مجرد تقليد أو انعكاس للحضارة اليونانية القديمة؛ يجب أن لا تغيب عن ذهننا -إذ نناقش ونقيم الحضارة الإسلامية- تلك الأفكار المبدعة التي جاءت من الجزيرة العربية مع الإسلام وقبله واستطاع المسلمون أن يمزجوا بها التراث اليوناني فيصنعوا من ذلك لونا جديدا سباقا فريدا... )
>[1]
(... ما الذي تركته حضارة العرب والمسلمين في
أوروبا ؟ لقد تركت بصماتها على جميع المستويات ابتداء ببعض العادات الشعبية، وانتهاء بالعلوم حيث يستخدم ملاحو الفضاء اصطلاحات عربية مثل : " السمت AziMuth " و " سمت الرأس Zenith " ، وهناك في خرائط القمر أكثر من موقع أطلق عليه أسماء لبعض العلماء العرب:
كالزركلي والبتاني أبي الفداء .. إن أشياء كثيرة لا يزال على الغرب أن يتعلمها من الحضارة الإسلامية... )
>[2] سارتون :
(... حقق المسلمون عباقرة الشرق أعظم المآثر في القرون الوسطى فكتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري حتى لقد كان ينبغي
[ ص: 75 ] لأي كان إذا يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها...)
.
سيديو :
(... تكونت فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة واختراعات ثمينة تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هـذا العصر، وجميع ذلك تأثرت به
أوروبا بحيث يؤكد القول:
إن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة. لقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب، ولكن الحقيقة ناصعة يشع نورها من جميع الأرجاء، وليس من مفر إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلا أو آجلا)
>[3]
.
دريبر :
(... ينبغي علي أن أنعي الطريقة الرتيبة التي تحايل بها الأدب الأوروبي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية علينا، أما هـذه المآثر فإنها على اليقين سوف لا تظل كثيرا بعد الأن مخفية عن الأنظار؛ إن الجور المبني على الحقد الديني والغرور الوطني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد...)
>[4]
.
نيكلسون :
(... إن أعمال العرب العلمية اتصفت بالدقة وسعة الأفق وقد
[ ص: 76 ] استمد منها العلم الحديث – بكل ما تحمل هـذه العبارة من معان – مقوماته بصورة أكثر فاعلية مما نفترض...)
>[5]