[ 2 ]
لقد أريد للعالم أن يكون صالحا لاستقبال الإنسان، مناسبا لقدراته
[ ص: 92 ] الخاصة، مستجيبا بقدر لمطامحه وأهدافه..
لقد هـيئت أرضية العالم لكي تحرث.. وتزرع.. ويكون الحصاد..
وبانتظار العقل الذي سيفكر.. واليد التي ستنفذ.. والإرادة التي ستشد بين رؤية العقل وقدرة اليد.. فإن العلم سيتشكل وفق صيغ ومعادلات تمكن القادم الجديد من أداء دوره الحضاري المرسوم.. تماما كما سيتشكل القادم الجديد نفسه كما سنرى بالصيغ والشروط التي تعينه على تنفيذ المطلوب:
والقرآن الكريم يحدثنا طويلا عن سائر (العمليات) التي أريد بها تهيئة العالم لاستقبال المخلوق الجديد، وإحاطة نشاطاته المتلفة بالضمانات.. بل إنه يمضي بنا إلى ما وراء ذلك اليوم الذي قال فيه الله سبحانه للسماوات والأرض:
( ... ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) ( فصلت: 11 ) .
إن التوجه الحضاري في القرآن الكريم يمتد إلى ما قبل
آدم .. إنه كل فعل امتزجت فيه إرادة الله وكلمته بالمادة، فصاغتها كتلا كونية، أو نظما طبيعية، أو خلائق تحمل بصمات الحياة الأولى من نبات أو حيوان..
وما دامت عملية بناء الكون وتهيئة الأرضية الصالحة للحياة على الأرض قد سبقت خلق آدم بأزمان لا يعلمها إلا الله، وما دامت المقاييس الآدمية تجيء دائما نسبية قاصرة محدودة إزاء خلق الله، فليس لنا أن نطمح للإحاطة الكاملة، والتفسير الشامل لقضية " التكوين " هـذه وليس لنا -كذلك- أن نفترض نظريات لا جدوى من ورائها..
[ ص: 93 ] إن هـذا فوق طاقتنا، وإن أية محاولة في سبيله لا تعد أن تكون عبثا " ميتافيزيقيا " يذكرنا بما كان يفعل جل الفلاسفة اليونانيين، والإسلاميين المتأثرين بهم، والذين أفنوا أعمارهم في هـذا السبيل... وهذا لا يعني أبدا التشكيك بالمحاولات العلمية -التجريبية لدراسة الجانب الطبيعي القائم " فعلا " من الكون، والسعي للكشف عن قوانين بنيانه المحكم؛ لأن هـذا هـو الموقف الذي يدعو له القرآن في عشرات الآيات.. إنما القصد هـو الجانب الفلسفي التصوري لبدايات الخلق والبحث عن " العلة " و " المعلول " و " متناهي الأول " ... إلى آخره.. وكل ما يبينه القرآن عن امتداد عملية الخلق هـذه في عصورنا التاريخية الراهنة والمقبلة، أن الكون ماض في حركته الداينامية نحو الاتساع الدائم بإرادة الله:
( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) ( الذاريات: 47 ) ، وإن هـذه الهدفية على المستوى الكوني الكلي وهذه الحركة صوب الاتساع لا بد وأن تنعكس في التصور الإسلامي على حركة التاريخ البشري نفسه، ومصير الإنسان في العالم قبل أن يجيء اليوم الذي أعلن عنه القرآن مرارا؛ حيث تطوى السماوات كطي السجل للكتب، وتكف الحياة عن الاستمرار تمهيدا ليوم الحساب، وتبدأ صفحة جديدة في تاريخ الخلق الإلهي الدائم:
( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) ( الأنبياء: 104 ) .
إننا حيثما تنقلنا في أرجاء القرآن الفسيحة لمطالعة الآيات والمقاطع الخاصة بخلق الكون وتهيئته الظروف الصالحة للحياة على الأرض،
[ ص: 94 ] وتمعنا فيها، وجدناها ترتبط ارتباطا أصيلا بالدور المنتظر الذي بعث الإنسان لكي يؤديه، وبالقصد والجدوى والنظام والأعمار والغاية التي بعث من أجلها، وهي كلها قواعد أساسية لأي نشاط حضاري فعال هـادف منظم متطور على الأرض:
( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين *
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين *
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هـو زاهق ولكم الويل مما تصفون *
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) ( الأنبياء: 16 – 19 ) .
( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( هـود: 7) .
( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ) ( الإسراء: 12 ) .
( هـو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) ( البقرة: 29 ) .
( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على [ ص: 95 ] العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ) (الرعد: 2) .
( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ) ( الحديد: 4 ) .
( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) ( الملك: 2 ) .
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) ( القيامة: 31 ) .
( قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين *
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين *
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين *
فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) ( فصلت: 9 - 12 ) .
إن كتلة العالم والطبيعة، وفق المنظور الإسلامي قد سخرت للإنسان تسخيرا، وقد حدد الله سبحان أبعادها وقوانينها وأحجامها بما
[ ص: 96 ] يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان في العالم، وقدرته على التعامل العمراني مع الطبيعة تعاملا إيجابيا فاعلا... ولنتصور كيف سيكون الحال على مستوى القدرة على التحضر لو كانت الشمس أو القمر على سبيل المثال أقرب قليلا أو أبعد قليلا عن موقعها المرسوم.. ولو كانت الجاذبية أخف قليلا أو أثقل قليلا عن شدها المحسوب، ولو كانت مكونات الغلاف الغازي غير ما هـي عليه من دقة معجزة في النسب المحددة.. ولو كانت مياه البحار والمحيطات خالية من الملح، والأجواء راكدة الرياح، ومحور الأرض عموديا وشكلها غير بيضاوي.. إلى آخره..
إننا إذا أردنا أن نعتمد مصطلحات المؤرخ الانكليزي "
آرنولد توينبي " ومقاييسه الحضارية فإننا سنرى في العلم " تحديا مناسبا " للإنسان ليس " معجزا " ولا هـو دون الحد المطلوب لإثارة التوتر البشري للرد.
وكأن إرادة الله سبحانه قد شاءت أن تقف به عند هـذا الحد لكي يحقق الإنسان المدى الأقصى الذي يحقق خلافته في الأرض، فلم يشأ الله أن يمهد العالم تمهيدا كاملا، ويكشف للإنسان عن قوانينه وأسراره بالكلية؛ لأن هـذا نقيض عملية الاستخلاف والتحضر والإبداع التي تتطلب مقاومة وتحديا واستجابة ودأبا إبداعا؛ ولأنه يقود الإنسان إلى مواقع السلبية المطلقة، ويسلمه إلى كسل لا تقره مهمة الإنسان على الأرض أساسا، كما أن الله سبحانه لم يشأ من جهة أخرى أن يجعل العالم على درجة من التعقيد والصعوبة الطبيعية والانغلاق والغموض يعجز معها الإنسان عن الاستجابة والإبداع، الأمر الذي يتنافى أيضا ومهمته الحضارية التي أنيطت به كخليفة لله على الأرض، جاء لإعمار
[ ص: 97 ] عالم غير مقفل ولا مسدود:
( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير *
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد *
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير *
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ( الشورى: 27 – 30 ) .
( الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون *
والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون *
والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون *
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هـذا وما كنا له مقرنين ) ( الزخرف: 10 – 13 ) .
والواقع أن الآيات الخاصة بمسألة التسخير " المتوازن " المناسب هـذا منبثة في مواضع من القرآن كثيرة لا تعد ولا تحصى.. إنه الحد " الوسط " الذي يتحدى الإنسان إلى نقطة التوتر والقدرة على الاستجابة والفعل والإعمار، ويتجاوز التكشف الكامل أو الانغلاق الكامل الذي يستحيل معهما رد الفعل والإبداع..
إن هـنالك آيات ومقاطع قرآنية عديدة تحدثنا عن هـذا " التسخير "
[ ص: 98 ] للعالم والطبيعة لخدمة الدور الذي أنيط بالإنسان في الأرض، وهي تمنحنا التصور الإيجابي لدور الإنسان الحضاري ينأى كلية عن التصورات السلبية لعديد من المذاهب الوضعية التي جردت الإنسان من كثير من قدراته الفاعلة، وحريته في حواره مع كتلة العالم، وتطرف بعضها فأخضعه إخضاعا كاملا لمشيئة هـذه الكتلة وإرادة قوانينها الداينامية الخاصة التي تجيء بمثابة أمر لا راد له، وليس بمقدور الإنسان إلا أن يخضع ويساير ويتقبل هـذا الذي تأمر به.
وسواء التزم المذهب الوضعي المنطق الديالكتيكي على مستوى الفكر الكلي غير المحدد، كما فعل
هـيغل الفيلسوف الألماني، أو على مستوى المادة وتبدل وسائل الإنتاج وظروفه " الخارجية " كما فعل
ماركس وإنغلز ، فإن الإنسان جزء منه أو مساحة من مكوناته فحسب، وإنه ليس أمامه إلا أن يتشكل وفق مقتضيات مسيرة أكبر حجما من إرادته، وأوسع مدى من قدراته ومطامحه ونزوعاته الذاتية والجماعية على السواء.
إننا نلتقي من خلال الرؤية الإسلامية -بصيغة أخرى للعلاقة بين الإنسان والعالم تختلف من أساسها.. صيغة السيد الفاعل المريد الذي سخرت وأخضعت له مسبقا كتلة العالم والطبيعة لتلبية متطلبات خلافته في الأرض وإعماره للعالم على عين الله:
( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر ) ( النحل: 12 ) .
( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ) *
[ ص: 99 ] ( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ) (إبراهيم: 32- 33) .
( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ) ؟ ( الحج: 65 ) .
( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) ( ص: 36 ) .
( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) ( العنكبوت: 61 ) .
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) ( لقمان: 20 )