وضـوح... الهـدف !!!
إن " عبادة الله " وحده -بالمفهوم الديني الشامل- هـي الهدف الذي يتوجب على الإنسان فردا وجماعة أن يصعد إليه أوجه نشاطاته الحضارية كافة.. وبينما ترسم المذاهب الوضعية -هي الأخرى- أهدافا لحركتها الحضارية، تتميز حينا بالغموض والمثالية، كما هـو الحال عند
هـيغل ، وتتميز حينا آخر بالتحديدات المادية الصارمة كما هـو الحال عند
ماركس وإنغلز .. الأمر الذي قاد الأول -وهو يتحدث عن تجلي المتوحد من خلال " الدولة " - إلى أن يعطيها المبررات الفلسفية كافة لممارسة سياستها العدوانية التي قد تقود ولا ريب إلى الدمار الحضاري، والظلم البشري، وقاد الآخرين إلى إعلان مبدأ دكتاتورية
[ ص: 105 ] الطبقة العاملة، وتبرير أي أسلوب تعتمده لتحقيق هـدفها ما دامت لا تعدو أن تكون منفذة أمينة لمنطق التبدل في وسائل الإنتاج، الأمر الذي قادها إلى تنفيذ المجازر الجماعية تجاه القوى المعارضة كلها، والتي لا تنسجم وبداهات التحضر البشري الحر..
ثم ماذا بعد هـذه الأهداف التي تؤكد المذاهب الوضعية أنها آتية لا ريب فيها، وهي في تأكيدها هـذا تقع في التناقض الصريح مع " الداينامية " التي أقرتها كأساس لحركة التاريخ البشري ونمو الحضارات ؟ ماذا بعد تجلي المتوحد ودكتاتورية الطبقة العاملة ؟!..
إن التجربة البشرية أوسع دائما وأغنى وأشمل من أن تحصرها حدود طبقية تقوم على فرض التشابه الجماعي بالقسر، ومجابهة كل تفرد، أو تميز إنساني، ولا يعدو مصيرها في نهاية الأمر أن يكون إنشاء مجتمعات لا تزيد في أنشطتها ومعطياتها عما نشهده في عوالم النحل والنمل من نظم هـندسية صارمة دقيقة، وعمل دائب، وإنتاج متزايد.. أو دولة عالمية يتجلى فيها المتوحد الهيغلي ويسوسها عرق ممتاز، مبررة سلفا كل ممارساتها العدوانية ونزعاتها الشوفينية.
بينما ترسم المذاهب الوضعية أهدافا كهذه تتميز بالغموض، أو الطغيان، أو التناقض، أو الانغلاق، نجد الموقف الإسلامي يعلن هـدفه الواضح المتوحد المفتوح الذي يستقطب حوله الفاعليات والمعطيات كافة: عبادة الله، والتوجه إليه، والتلقي عنه.. ويطلب من القوى
[ ص: 106 ] مؤمنة أن تتحرك على مدار التاريخ وفق كل الأساليب الإنسانية الشريفة الممكنة لتجميع البشرية حول هـذا الهدف الكبير:
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
لله ) ( البقرة: 193 ) .
ولكي تتوحد في ممارساتها ومعطياتها وعلائقها جميعا مع النواميس الكونية الشاملة والنظام الإلهي الملزم في مداه البعيد، والذي ما منح هـذا القدر من الحرية للإنسان إلا لكي يعتمدها باختياره في التساوق مع هـذا النظام، والاندماج في المجرى العام لخلائق الله جميعا تمييزا له -بهذه الحرية التي تنبثق عن دوره كخليفة ومكانته كسيد للعالمين- عن سائر خلق الله.. وثمة فرق شاسع على كل المستويات الذاتية والاجتماعية والحضارية في النتائج المتمخضة عن نشاط يبذله الإنسان، وهو متساوق مع نواميس الكون متناغم مع مسيره ومصيره، أو وهو منشق على هـذه النواميس متنافر معها بدءا ومصيرا..
والواقع أن الإنسان -فردا وجماعة- ينسى في معظم الأحيان أن دائرة حريته محدودة فيما يقدمه من أفعال، وما يتخذه من مواقف، ويلتزمه من أهداف، وأنه فيما وراء ذلك محكوم بسنن ونواميس إلهية تفوق طاقاته، وقدراته جميعا، ودونها لا يمضي حق وعد، ولا يستقيم نظام كوني، ولا وجود بشري، ولا تتحقق حكمة الله سبحانه من تيسير الكون والخلائق جميعا، وفق طرائق محددة منضبطة تؤول بهم جميعا إلى الأهداف التي رسمها علم الله المطلق، ودفعتهم إليها إرادته التي لا راد لها.. والآيات التالية تعرض علينا المسألة في أبعادها المتكاملة ومن زواياها المختلفة:
[ ص: 107 ] ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) ( الحجر: 85 ) .
( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ... ) ( الرعد: 15 ) .
( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ) ( النحل: 49 ) .
( وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ) ؟ ( النحل: 52) .
( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) ( الإسراء: 44 ) .
( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) ( ص: 27 ) .
( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) ( الروم: 8 ) .
( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل *
له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هـم [ ص: 108 ] الخاسرون ) (الزمر: 62 - 63) .
( بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون *
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) ( المؤمنون: 70-71 ) .
( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) ( الروم: 26 ) .
( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين *
ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ( الدخان 38 – 39 )