[ 5 ] المـيزة التحريريـة...
لقد كان الإسلام منذ اللحظة الأولى عملا تحريريا.. وعلى المستويات كافة.. وقد رأينا ونحن نتحدث عن النقلة التصورية -الاعتقادية التي نفذها هـذا الدين، كيف أنه حرر الإنسان من الضلالات والأوهام والطواغيت والأرباب.. وفي نقلته الأخرى.. النقلة المعرفية.. مارس تحريره من الخوف والجهل والأمية.. وكانت نقلته المنهجية باتجاه تحرير الإنسان المسلم من الخضوع للفوضى والانحناء للصدفة العمياء، وتبصيره بقوانين العمل والحركة التي يسير الكون والعالم والتاريخ بموجبها..
ونريد هـنا أن نتوغل أكثر في هـذه الميزة " التحريرية " التي تصبغ حضارة الإسلام، وتتشابك مع نسيجها الفذ.. فنضع أيدينا على دعوة ملحة لتحرير رغبات الإنسان وأشواقه الجسدية والروحية، وفتح الطريق أمام دوافعه وحاجاته ومنازعه!! وهذا التوجه يمثل امتدادا ولا ريب لرؤية الإسلام التوازنية الأصيلة التي مرت بنا خطوطها العريضة قبل قليل.
إن إحدى الآيات القرآنية تتحدث بصراحة عن " الزينة " آمرة بني آدم أن يمارسوها. وأين؟ عند كل مسجد حيث يؤدي الإنسان غاية تجربته في التجرد والانسلاخ عن زخرف الحياة الدنيا:
[ ص: 129 ] ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ... ) .. (الأعراف:31) تعقب ذلك صريحة -أيضا- إلى الأكل والشرب شرط ألا يبالغ ذلك حد الإسراف:
( ... وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ( الأعراف: 31 )
ثم ما تلبث الآية التي تليها أن تتساءل بصيغة استنكارية واضحة:
( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هـي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) ( الأعراف: 32 )
إن المحرم والمرفوض في الإسلام هـو الفاحشة، أيا كان مصدرها الجسد أم الروح، وليس ثمة رفض أو تحريم أو احتقار موجه ابتداء إلى الجسد بما أنه جسد، وإلى غرائزه وحاجاته بما أنها غرائز وحاجات تقف في طريق الروح!! إننا نقرأ في الآية التي تلي ذلك -وهذا الارتباط بين الآيات الثلاث يحمل مغزاه الواضح- نقرأ:
( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ( الأعراف: 33 )
وما أكثر الآيات التي تستنكر على بعض أتباع الديانات المنحرفة
[ ص: 130 ] السابقة تحريمهم الكثير من الطيبات التي أحلها الله وما أكثر الآيات التي تدعو الإنسان إلى استغلال الطيبات دون إفراط أو تفريط.. وإلا لم كان خلق الله سبحانه لها وتفجير خيراتها وتنويعها في أنحاء الأرض ؟
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ... ) ( آل عمران: 93 )
( قل هـلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هـذا ... ) ( الأنعام: 150 )
( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم ... ) ( يونس: 59 )
( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ( الأنعام: 141 )
( ...أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ... ) ( الأنعام: 148 )
( ... لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ... ) ( النحل: 35 )
[ ص: 131 ]
إن الآيتين الأخيرتين تضعان التحريم الاعتباطي جنبا إلى جنب مع الشرك بالله، وتنعى على أولئك الذين يمارسون هـذا التحريف بشأن الحقائق الكونية، وبحق أنفسهم على السواء قائلين: إن هـذا قدر لا مفر لهم منه.. إن كبت الغرائز هـو تزوير للموقف الإنساني في الأرض، والشرك بالله هـو أخطر تزوير، ومن ثم كانت الممارسة البشرية التي تعتمد التزوير مرفوضة في القرآن مهما صغر حجمها أو كبر.
بل إننا نجد في الآية التي تقول:
( فبظلم من الذين هـادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ... ) ( النساء: 16 )
إن كبت بعض جوانب الغريزة أو الحد من إشباعها القائم على ضرورة التنويع، يجيء بمثابة " عقاب " وليس -ما قد يتصور بعضهم- قاعدة من قواعد الدين.. على العكس إن إحدى كبريات البداهات الدينية التي نتعلمها من القرآن الكريم أن الحلال هـو القاعدة العريضة في ميادين الإشباع الغريزي جميعا: طعاما وشرابا وجنسا ومسكنا وملبسا، وأن التحريم مسألة " استثنائية " محدودة المساحة ضيقتها حتى إن القرآن ليعتبر توسعها بشكل اعتباطي كفرا وافتراء على الله:
( ... وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ... ) ( الأنعام: 140 ) .
( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هـذا حلال وهذا حرام ... ) ( النحل: 116 ) .
[ ص: 132 ]
ويحذر المؤمنين من هـذا السلوك المنحرف المعارض لطبيعة التركيب البشري الذي صاغه الله وعجنه، وهو أدرى به:
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ... ) ( المائدة: 87 ) .
( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ... ) ( التحريم: 1 )
ويبين لهم أن إحدى مهام الأنبياء الأساسية أن يجيئوا -دائما- لكي يعيدوا الأمور إلى نصابها ويقفوا بمواجهة التزوير.. وهنا في مجال التجربة الغريزية يجيئون لكي يفتحوا الطريق العريض أمام متطلباتها مرة أخرى، لكي يمضي الإنسان المؤمن إلى أهدافه الروحية دون أن تعيقه الضرورات:
( ... ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ... ) ( آل عمران: 50 )
( ... ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ... ) ( الأعراف: 157 ) .
إن نداء يطرحه القرآن لبني آدم في مواضع كثيرة:
( ... كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ... ) ( البقرة: 168 ) ، يقودنا إلى بدهية أخرى كثيرا ما غفلنا عنها لشدة ظهورها ووضوحها، أن الله سبحانه قد " سخر " لنا الأرض بما ينسجم وتركيبنا الآدمي، من أجل أن نواصل مسيرتنا لإعمار العالم، وعبادة الله وحده وإنه لمن التناقض المكشوف المرفوض في القرآن قطعا أن يركب الإنسان -من قبل خالقه- تركيبا معينا وأن تسخر الأرض -بإرادة ال- لتلبية متطلبات هـذا التركيب ثم تجيء
[ ص: 133 ] الأديان -من عند الله أيضا- لكي تنصب الحواجز، وتضع الأسلاك الشائكة بين متطلبات التركيب الآدمي وبين خيرات الأرض ومنافعها المسخرة.
إن هـذا التناقض إنما يجيء على إيدي طبقات " رجال الدين " التي يقوم دورها على التزييف، ووضع الحواجز، ونصب العراقيل في دروب المؤمنين من أجل أن تضطرهم اضطرارا للجوء إليها، وطلب معونتها قبل السماح لها بالذهاب إلى الله.. وهناك يبدأ الاستغلال والاستنزاف والأكل بآيات الله ثمنا قليلا.. وقد قطع الإسلام الطريق على بروز طبقات محترفة كهذه، ومن ثم فلا داعي للحديث أساسا عن تزوير كهذا يقف بمواجهة إرادة الله في تحقيق الانسجام الكامل بين الإنسان والعالم.
وما يقال عن حاجة الإنسان إلى الطعام يمكن أن يقال عن حاجاته الأخرى سواء بسواء، ولقد وقفنا بعض الشيء عند المسألة الأولى لكي تبدو للقارئ بمثابة معيار موضوعي مستمد من القرآن الكريم مباشرة يقيس به موقف الإسلام من سائر الحاجات الحيوية للإنسان.