تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، القائل في محكم تنزيله:
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هـم فيها خالدون ) (البقرة: 217) ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معلم الناس الخير، المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فهذا الكتاب الخامس في سلسلة (كتاب الأمة) ، التي اعتزمت رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية إصدارها؛ مساهمة في تحقيق الوعي والحصانة الفكرية، وإعادة بناء، وتنقية الموارد الثقافية إلى جانب العطاء الصحفي، ويمكن أن يكون العنوان: (الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري) ذا دلالة واضحة على موضوع الكتاب والقضايا التي عرض لها؛ ذلك أن الاستشراق يشكل الجذور الحقيقية التي كانت ولا تزال تقدم المدد للتنصير والاستعمار، وتغذي عملية الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وتشكل المناخ الملائم من أجل فرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هـو المنجم والمصنع الفكري الذي يمد المنصرين والمستعمرين بالمواد، يسوقونها في العالم الإسلامي؛ لتحطيم عقيدته، وهدم عالم أفكاره، وقد
[ ص: 7 ] جاء هـذا الغزو الثقافي ثمرة لإخفاق الغزو العسكري وسقوطه، ولتربية جيل ما بعد الاستعمار.
لقد تطورت الوسائل وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نقول: إن مراكز البحوث والدراسات؛ سواء أكانت مراكز مستقلة أم أقساما للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في المغرب، وما يوضع تحت تصرفها من الإمكانات المادية والمبتكرات العلمية والاختصاصات الدراسية تمثل الصورة الحديثة التي تطور إليها الاستشراق، حيث تمكن أصحاب القرار السياسي من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يوميا.
ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات، منها حوالي خمسين مركزا مختصا بالعالم الإسلامي، ووظيفة هـذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ثم دراسته وتحليله مقارنا مع أصوله التاريخية ومنابعه العقائدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار السياسي، ومن ثم تبنى على أساس ذلك الخطط والاستراتيجيات، وتحدد وسائل التنفيذ.
لقد أصبح كل شيء خاضعا للدراسة والتحليل، ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا الفكرية والدراسات الإنسانية أصبحت توازي تلك المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية، إن لم تكن أكثر دقة حيث لا مجال للكسالى والنيام والعاجزين الأغبياء في عالم المجدين الأذكياء.
لقد اكتفينا بمواقف لرفض والإدانة للاستشراق والتنصير، اكتفينا بالانتصار العاطفي للإسلام، وخطبنا كثيرا ولا نزال في التحذير من الغارة على العالم الإسلامي القادمة من الشرق والغرب دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث في هـذا الموضوع، أو إيجاد وسيلة صحيحة في المواجهة، أو تحقيق البديل الصحيح للسيل الفكري والغزو الثقافي من هـناك... إلا من رحم الله من جهود فردية لا تفي بالغرض، فإذا كنا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثل تراثنا بشكل صحيح؛ حيث يحاول بعضنا الوقوف أمامه للتبرك والمفاخرة دون أن تكون لدية القدرة على العودة من خلاله إلى أصولنا الثقافية المتمثلة في الكتاب والسنة، ويحاول آخرون القفز من فوقه ضاربين بعرض الحائط فهوم علماء وجهود أجيال بدعوى التناول المباشر، دون امتلاك القدرة على ذلك، فكيف يمكننا -وهذا
[ ص: 8 ] واقعنا وموقعنا- أن نواجه معركة الصراع الفكري، ونقدم فيها شيئا؟ وإذا كان الكثير منا ما يزال يعيش على مائدة المستشرقين لفقر المكتبة الإسلامية للكثير من الموضوعات التي سبقنا إليها، وإذا كانت مناهج النقد والتحليل، وقواعد التحقيق، ووسائل قراءة المخطوطات من وضعهم، كما أن الكثير من المخطوطات الإسلامية لم تر النور إلا بجهودهم على ما فيها، فأنى لنا الانتصار في معركة المواجهة العقائدية؟
ويمكن لنا إذا تجاوزنا جهود علمائنا الأقدمين في تدوين السنة ووضع ضوابط النقل الثقافي، وقواعد الجرح والتعديل، وتأصيل علم مصطلح الحديث الذي حفظ لنا السنة إلى جانب بعض الدراسات الجادة في هـذا الموضوع، فإننا لا نكاد نرى شيئا يذكر، فقد اقتصر عمل معظم المشتغلين بالحديث والسنة عندنا على تحقيق بعض الأحاديث تضعيفا أو تقوية؛ لإثبات حكم فقهي أو إبطاله، أو إثبات سنة ومواجهة بدعة، وهذا العمل على أهميته يبقى جهدا فرديا فكريا دون سوية الأمر المطلوب الذي يمكن من الانتفاع بكنوز التراث، وأين هـذا من عمل المستشرقين في إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي؛ كعمل ضخم، وكدليل علمي لا يستغني عنه أي مشتغل بالحديث؟
لقد نجحت العقلية الأوربية بداية في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعن طريق الاستشراق والمستشرقين إلى التحقيق والتمحيص والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلا أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقى مظهرا من مظاهر الاحتواء الثقافي.
ولقد نجحت العقلية الأوروبية -كما أسلفنا- في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم والنقد، وأوجدت القدوة والأنموذج، ويمكن القول: إن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هـذا النهج، ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، إلى درجة إيجاد ركائز ثقافية عربية معبرة ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها؛ حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية التي اكتسبها المثقفون المسلمون من الجامعات الأوروبية.
[ ص: 9 ]
ونستطيع القول: إن آثارالاستشراق وإنتاج المستشرقين لا يزال يحتل الكثير من مواقعنا الثقافية، وسوف لا يفيدنا في المواجهة مواقف الرفض والإدانة أو الهروب من المشكلة، من هـنا تأتي أهمية هـذا الكتاب في أنه لا يقتصر على تشخيص العلة ورصد آثارها فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى تحديد الأسباب التي أوجدتها، ومن ثم يصف العلاج ويبين الخطة التي لا مناص من التزامها في معركتنا الفكرية، التي تستهدف وجودنا حيث نكون أو لا نكون.
وميزة هـذا الكتاب الذي نقدمه اليوم أن له صفة الأكاديمية، فقد اعتمد مؤلفه المنهج العلمي الوثائقي في التناول، وناقش المقدمات، وعقد المقارنات، وانتهى إلى النتائج، وقدم الحلول اللازمة بعيدا عن الانفعال والارتجال، لذلك نقول: إنها لا تكفي القراءة للكتاب بل لا بد من الدارسة له.
ومن ميزاته أيضا أنه يمكن أن يصل بالمثقف بشكل عام، والمثقف المسلم غير المخصص بشكل خاص إلى حد الكفاية في هـذا الموضوع؛ حيث إن الاطلاع على هـذا القدر من المعلومات عن الاستشراق ومناهج المستشرقين يشكل ضرورة لكل مسلم؛ يبصره بالساحة الثقافية التي يتعامل معها، والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، خاصة وأن مؤلفه الأخ الدكتور محمود حمدي زقزوق يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد متخصصا في هـذه القضية الهامة، بعد أن عرف المستشرقين واطلع على إنتاجهم عن قرب بطبيعة متابعة دراساته العليا في الغرب، وأنه كان مقررا للندوة التي دعت إليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في القاهرة لمناقشة إعداد موسوعة الرد على المستشرقين، وأعد التقرير عن المنهج العلمي الواجب اتباعه في إعداد الموسوعة.
وتبقى حاجة المكتبة الإسلامية قائمة لمجموعة من الكتب التي تعرض للقضايا الفكرية التي يعاني منها عالم المسلمين، وتصل إلى حد الكفاية بالنسبة للمسلم غير المتخصص على نحو هـذا الكتاب، بعيدا عن الانفعال والعاطفية وإثقال ذهنه بما ينفع وما لا ينفع.
والله نسأل أن يجزل مثوبته للأخ الدكتور محمود حمدي زقزوق، وينفع به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[ ص: 10 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنـا مسلمون ) ( آل عمران : 64)
[ ص: 11 ]