الفصل السادس
المذهبية الإسلامية والنظرة الشمولية للإنسان
الإنسان كائن حضاري معقد جدا له دوافع متنوعة، تؤثر فيها عوامل متشابكة مختلفة، عبر مراحله الاجتماعية المتتابعة. وهذه العوامل منها ما هـي فطرية جبلية، ومنها ما هـي عوامل اجتماعية بيئية مكتسبة. ولا بد أن تخضع الدوافع الإنسانية إلى تربية شاملة متوازنة تراعي كيانه من حيث هـو كل. وأية تجزئة للإنسان وفهمه في ضوء جزء منها ستقود إلى خطأ علمي كبير، يضيع كثيرا من الحقائق الطبيعية في حياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية السياسية
>[1] [ ص: 71 ]
ولذلك فلقد حدث في العصور الأخيرة، طمس واضح لشمولية الإنسان، ومعالمها الكلية، بناء على دراسته دراسة مجزأة، والنظر إليه من زاوية معينة، وسحب نتائجه على الكل الشمولي.
فالنظرة الكنسية عندما نظرت للإنسان من حيث هـو كائن روحي كرد فعل عنيف على حيوانية ومادية النظرة الرومانية، أفقدت الإنسان توازنه وحملته ما لا يحتمل وحاولت قتل غرائزه وتجاهلت واقعه الأرضي تجاهلا كبيرا.
إن التربية الكنسية الروحية هـذه وزرعها اللاشعوري المستمر بأن مملكة الإنسان هـي في عالم المثل والروح والسماء قد فجرت الإنسان تفجيرا رهيبا بعد كبت القرون المتطاولة، فالتصق بالأرض وأنشأ مملكته الحضارية الحديثة فوقها، على أسس من المادية البحتة والقيادة الإنسانية (المؤلهة ) بمعزل عن مملكة الروح وقيمها وأخلاقياتها فأنتجت للإنسان الفلسفات التغييرية التي جزأته بدورها وأفقدته شموليته الإنسانية.
والوضعية التي نادى بها (
أوجست كونت ) الفرنسي، عدت الإنسان كائنا يستطيع أن يشكل قيمه بنفسه، ويحولها إلى دين وضعي، يضبط حركته الاجتماعية، ولا حاجة بعد إلى الأديان والقيم القديمة في زعمه. ثم ظهر بعد قرن كامل من الصراع والتجربة أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد القيم المجردة عن المصالح، لأن حب الإنسان لمصلحته، موجها من جانبه الحيواني حال بينه وبين فهم الإنسان من حيث معناه وشموليته،
[ ص: 72 ] ومنعه من إيجاد تلك القيم المجردة التي تعبر عن المعنى الشامل لإنسانيته.
والماركسية جردت الإنسان من شموليته وجعلته سلوكا متغيرا في ضوء تغير أدوات الإنتاج، مجبرا على ذلك السلوك مسلوب الإرادة، فحصرت شموليته الإنسانية في العامل الاقتصادي، ثم أثبتت التجارب الواقعية والإحصاءات الدقيقة في الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يفسره عامل واحد. لأن تفسير سلوكه وتطور حياته بعامل واحد يعني فصمه عن كيانه الإنساني الشامل وفي ذلك انحرافه وأزماته وشقاؤه.
والداروينية نظرت إلى الإنسان من زاوية حيوانية انطلاقا من التشابه الظاهري في القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات. ناسية مساحة الاختلاف والتنافر التي تجدها شمولية شخصية الإنسان لجانبه الحيواني البحت وجانبه الإنساني الفكري والشعوري، فأثرت وجهة نظرها الاحتمالية تأثيرا كبيرا في إنكار ثبات الصفات الخلقية والإنسانية القيمية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيوانا اجتماعيا متطورا، لا ضوابط لتغييره إلا في إطار تكوينه الحيواني.
وأما الفرويدية فقد نظرت إلى الإنسان في ضوء حيوانية الإنسان الداروينية ، فانتهت إلى أن الجنس هـو أساس حركة الإنسان وسلوكه. فلا بد أن يطلق منهج التغيير في زعمه، هـذا الدافع حتى يأخذ مجراه الطبيعي.
وكان من نتائج الفرويدية تحطيم الأسرة وضوابطها، من خلال الفوضى الجنسية العارمة التي نفذت إلى كل جزئية من جزئيات الحياة
[ ص: 73 ] الاجتماعية في الحضارة الحديثة، ومن خلال الانحرافات المتلاحقة التي سببت أمراضا نفسية وجنسية خطيرة ومعقدة في المجتمعات الغربية، وانتقلت جراثيمها بدرجات متفاوتة إلى المجتمعات الأخرى في العالم كله.
وأما المذهب النفعي فقد شارك المذاهب الأخرى في التفسير الأحادي ونظر إلى الإنسان من خلال غريزته الذاتية المصلحية التي تحقق له أكبر نفع ممكن. فمقياس الحق مرهون عند (
جون ديوي ) وأرباب هـذه النظرية بمدى تحقق المصلحة، وهي غير منضبطة بضوابط القيم الثابتة العادلة عندهم.
ومن هـنا فمنهج التغيير النفعي (البراجماتي ) انتهى إلى التخلخل الخطير في الحياة الاجتماعية في المجتمع خاصة، لأنه رأى الحق في تحقق المصلحة بمعزل عن القيم الروحية ومبادئ الحق والعدل المجردين في تاريخ الفكر الإنساني.
وكانت خاتمة المطاف في سلسلة النظرات الأحادية المجزئة لكيان الإنسان، النظرة الوجودية ( السارترية ) التي أنكرت كسابقاتها وجود الإله، لينصب الإنسان نفسه مكانه بدعوى إثبات وجوده، وتحقيق حريته، بعيدا عن أوامر الدين ونواهيه وتوجيه الفلسفات العقلية وضغط العادات والتقاليد.
وقادت الوجودية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حالة يائسة من القلق والضياع والسلبية في الحياة والحرية غير المضبطة والفوضى
[ ص: 74 ] الاجتماعية
>[2] .
ومن هـنا فإن المناهج التغييرية في العالم التي توجهها تلكم الفلسفات المادية البحتة، لم تستطع أن تعدل من عرج الحضارة الحاضرة. ولم تقد المجتمع الإنساني إلى السعادة والتوازن، لأن هـذه المناهج لا تنظر نظرة شمولية إلى الإنسان. وحتى لو نظرت فهي إنما تنظر بعين بشرية محضة، لا تفلح قط في مهمتها؛ لأن لأسرار الحياة الحيوانية للعالم الإنساني لا يمكن أن تدرك في عصر واحد. وهي من التعمق والتشابك والتعقيد بحيث لا يدرك أبعادها إلا خالق الكون والإنسان الذي أودع في الوجود هـذه الأسرار، وهو عليم بها وبحركتها وضوابط موازنتها.
ومن هـذا المنطلق الحكيم، فإن المنهج التغييري الإسلامي هـو المنهج الصالح لقيادة حضارتنا الحاضرة، وملء الثغرات التي حدثت في منظومتنا الحضارية الخاصة. وذلك لسببين:
- الأول:
إن هـذا المنهج، ليس منهجا بشريا، إنما هـو من عند الله، خالق الوجود وعالم الأسرار، عنايته تصل إلى كل ذرة من ذرة من ذرات الوجود بما فيه ومن فيه.
- الثاني:
إنه منهج قائم على أساس شمولية مترابطة متوازنة، داخليتها مرتبطة
[ ص: 75 ]
بظاهرها ارتباطا وثيقا في وحدة متناسقة لا تستطيع أن تفصل جزءا عن جزء. وإن أدخلنا القسمة المنطقية بين أجزائه، فإنما نفعل ذلك من باب الفهم والتوضيح.
إذن فمنهج التغيير الإسلامي منهج شامل لتحريك طاقات الإنسان كافة. إذ هـو لا يقتلها بل يخرجها من عالم القوة إلى عالم الفعل وينظمها ويحركها في الاتجاهات التي تنسجم مع أصل تكوينها.
ونحن في المجتمع الإسلامي لا يجوز في منهجنا التغييري لتجاوز السكون الزمني السابق، أن نعيد التجارب الأحادية الغربية الممثلة بالمبادئ التي تحدثنا عنها. بل لا بد لنا أن نتحرك داخل نمطنا الإسلامي في منهج التغيير، حتى يتم التغيير في إطار طبائع الأشياء، فنصل إلى حياة متقدمة متوازنة وحضارة تعبر بصدق عن كيان الإنسان الشامل وفطرته.
[ ص: 76 ]