الفصل الخامس: الأولويات في العمل الصحي
إذا كان مليونان من أصل أحد عشر مليون وليد سنويا يموتون في الشرق الأوسط المسلم بسبب الإنتانات التي يمكن الوقاية منها، (نصفهم يموتون بأمراض الإسهال وسوء التغذية) .
وإذا كان مليون طفل يموتون كل عام في أفريقيا من مرض الملاريا، وهناك مجال للوقاية من هـذا المرض، فلا حاجة للتساؤل إذن عن الأولويات، إنها في الوقاية من هـذه الأمراض: بالتحصين
[ ص: 125 ] إذا وجد، والتغذية الصحية، وتحسين صحة البيئة، ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وتصريف الفضلات والقمامة بالأسلوب الفني اللازم، والتوعية الصحية، ومكافحة الأمراض السارية المتوطنة على مستوى صحة العامة. وكل هـذه النشاطات -تقريبا- تندرج تحت عنوان كبير هـو: خدمات الصحة العامة ، ومن أبرز ميادينها الطب الوقائي.
إلا أن أولوياتنا في العالم المسلم (مقلوبة) لسوء الحظ
>[1] ، وهذا ليس حكرا على ديار المسلمين وحدها، بل هـو عارض عام في العالم (النامي) ؛ المتخلف، ففي كل هـذا العالم المتخلف نجد خدمات الصحة العامة -عادة- ضعيفة محصورة في المراكز الحضرية، تشكو من عدم الاهتمام الجاد بها، ومن عدم وجود المخصصات المالية والموارد اللازمة، والأطر الفنية المدربة، والتخطيط الصحي الواعي. ويكتسح (الطب العلاجي) أكثر جوانب الميزانيتين؛ العادية
[ ص: 126 ] والإنمائية، ولهذا الواقع المؤسف خلفيات مادية ونفسية وسياسية وأنانية:
ومهما كان النظام القائم في العالم (النامي) يفكر المسئولون أولا -وقبل كل شيء- بتثبيت دعائم وجودهم على رأس الهرم الحاكم بالطرق المتاحة. ومن أهم أجهزة السلطة وسائل الإعلام؛ مقروءة ومرئية، ومسموعة، ولا غبار على مبدأ الدعاية لإنجازات الدولة في كل ميدان، فلنر ماذا يمكن أن يستفاد من الدعاية في ميدان وزارة الصحة -وهي أضعف الوزارات وزنا اعتباريا وماليا- في العالم النامي.
إذا بني مركز صحي يروج له بكل وسائل الإعلام ويظهر كواقع حسي ملموس و (إنجاز مرئي) . وإذا اشتريت معدات طبية غالية الثمن دقيقة الصنع من الخارج طبعا -ودعونا من الحديث عن حدودية استعمالاتها وانعدام صيانتها، وهذا ما يحدث عادة- فهذه الآلات أشياء يمكن لعامة الناس أن يروها مباشرة على التليفزيون، ويكون لها تأثير نفسي يستفيد منه المسئول دعاية لتدعيم مركزه الانتخابي إذا جرى انتخاب، فشراء آلات الطب العلاجي المعقدة الشكل تسجل في قائمة المنجزات.
أما الطلب الوقائي ونشاطاته فليس له ولها -في الواقع- التأثير النفسي المطلوب؛ إذا أذيع مثلا أن أطفال الريف قد لقحوا ضد مرض شلل الأطفال وقاية لهم من إصابة محتملة في قابل أيامهم. فليس في ذلك أمر ملموس مادي مرئي يمكن للمسئولين أن يعرضوا نتائجه -وهي في
[ ص: 127 ] بطن الغيب- في التليفزيون كما يعرضون الرئة الاصطناعية مثلا أو يعرضون جناحا جديدا شيد حديثا في مستشفى العاصمة، حتى ولو أن الجناح هـذا قد أقيم دون تخطيط مسبق لتجهيزه بالأطر الفنية المدربة والأجهزة اللازمة، ولا حتى رصد له المال اللازم لتسييره في العمل اليومي؛ وليس هـناك أي تفكير جاد في أن: (درهم وقاية خير من قنطار علاج) . هـي حكمة لا تزال قائمة، وأن مصاريف الطب العلاجي تفوق تكاليف الطب الوقائي، وأن نجاح الوقاية يوفر نفقات كثيرة من مصاريف الطب العلاجي بتخفيف الأمراض التي تستخدم الأسرة في المشافي؛ وأي طالب اقتصاد مبتدئ يعلم أن المردود الاقتصادي على المدى الطويل أكثر بكثير في الطب الوقائي والخدمات الصحية.
إلا أن (مراكز النفوذ) هـي عادة في المدن، وتتألف من الفئات الموسرة -حلالا أو حراما- وهي التي تستفيد من تركيز الخدمات العلاجية في المدن على حساب حياة الملايين من أبناء الريف الفقير، وسكان الريف -بالمناسبة- يشكلون في بعض ديار المسلمين أكثر من 87% من مجموع السكان.
ويضحى دائما بالعلم والمعرفة والخبرة والتجربة الطويلة على مذبح الولاء. الولاء لأولى الأمر، وتستفحل (هجرة الأدمغة) ، ويسود حينذاك الجهل. ومن مظاهره الفشل المتلاحق في جميع ميادين النشاطات الحياتية ومنها طبعا النشاطات الصحية.
وحتى في مجال الطب العلاجي يفتقد الفقراء في كثير من ديار المسلمين الإخلاص في العاملين بهذه الخدمات، ويفتقدون الأدوية في
[ ص: 128 ] المراكز الطبية، والتمريض في المشافي، ونظافة اليد في الإداريين.
ويسمع المسلمون حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
( تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له دواء إلا الهرم ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي.)
ويريدون أن يقتدوا بسنة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم فلا يجد أكثرهم -الآن- المال لدفع أجور التداوي المرتفعة، هـذا إذا وجدت مؤسسات التداوي أصلا في مناطقهم. واسألوا أبناء ريف (موريتانيا) أو (بنغلادش) أو (نيجيريا) أو (الصومال) أو (تشاد) مثلا هـل يجدون فرصة للتداوي عندما يمرضون وهذا هـو حالهم أغلب أيام السنة؟ اللهم إلا إذا لهثوا خلف المراكز التنصيرية، بل الواقع أن المنصرين هـم الذين يلهثون خلف المحتاجين والمرضى والمعذبين والجائعين والمستضعفين المسحوقين واللاجئين المحرومين؛ لتضميد الجراح وإطعام الجياع وكساء العراة، وإعطاء المحتاج، وإغداق المال بلا حساب، وهكذا يغمرونهم (بالإحسان) .
ومنذ أواسط السبعينيات كان للكنيسة لجان تنسيق تخطط مع الحكومات الوطنية الخدمات الطبية في ست دول أفريقية على الأقل، منها (نيجيريا) ذات الغالبية المسلمة وأكثر دول أفريقيا سكانا
>[2] .
[ ص: 129 ]