حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من هـنا كانت حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي صانت الرسالة المحمدية والأمة المسلمة في تاريخها الطويل من الانحراف، وحملتها على الولاء للمنهج، وعدم التحريف للدين والشذوذ الجماعي، والعثرات المردية على طريقها الطويل، ورحلتها الشاقة في ميادين الاجتهاد والاستنباط، وإنارة السبيل للسالكين، وحفظ القادة والزعماء والمفكرين والعلماء من الافتتان بالرأي والإعجاب بالنفس، من ادعائهم أو ادعاء أتباعهم العصمة لهم، وحفظت الأمة من أن تقع فريسة لغلو أو تطرف أو شذوذ أو تعثر، لذلك شددت الشريعة الإسلامية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بهما في كل زمان ومكان، وحذرت من التواني فيهما والمحاباة لأهل الوجاهة والسلطة، وجعلت كلمة حق عند سلطان جائر أفضل الجهاد، وكانت هـذه الحسبة، وكان اللعن
لبني إسرائيل على لسان الأنبياء السابقين لأنهم عطلوا هـذه الحسبة في حياتهم، قال تعالى:
( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) *
( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (المائدة:79) .
هذا وقد تختلط حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض الأذهان فتتوهم أنها تتعارض مع مصلحة الإسلام والمسلمين في عصر من العصور، ويكون هـذا التوهم من تلبيسات الشيطان ليضمن استمرار الانحراف ومتابعة الانزلاق..
ولو أخذ المسلمون في اعتبارهم في الماضي أن حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى إحداث تشويش واضطراب في صفوف المسلمين، وكفوا عن التنبيه عن الزلل والخطأ، والانحراف والمغالاة، والتطرف والرفض والخروج لانقطع هـذا المؤشر الحيوي، وهذا الضابط اللازم عن واقع الأمة الاجتماعي ومسلكها الخلقي، وكان ما يعقب ذلك من التباس الأمور على أهل العلم والرأي وانجراف عامة الناس للتيارات البعيدة عن هـذا الدين باسم الدين واختفاء كثير من الحقائق عن ساحة التصور الإسلامي السليم.
[ ص: 20 ]
إن التستر على الأخطاء باسم المصلحة العامة، وحفظ الكيان، والتوهم بأن الحسبة في الدين تؤدي إلى البلبلة والتمزق أمر خطير، ومفسدة فظيعة تدفع الأمة ثمنها الدماء الغزيرة، وليس هـذا فقط، بل قد يؤدي هـذا إلى ذهاب الريح وافتقاد الكيان أصلا، فالأمة بدون هـذه الحسبة وهذا التناصح تعيش لونا من التوحد يشبه إلى حد بعيد الورم الممرض.
من هـنا كانت صورة المسلم الحق عدم التحجر والتزمت على صورة مهما كانت طبيعتها، بل هـو على استعداد دائم للانتقال من النافع إلى الأنفع، ومن الصالح إلى الأصلح، وقبول الحق إذا اتضح، والدليل إذا وضح، وعدم السقوط في الحزبية القاتلة، والعصبية المدمرة.