وسائل لا غايات
إن الحكومات والجماعات والجمعيات والتنظيمات وصور التكتلات جميعا التي يسعى إليها الناس إنما هـي وسائل لتحقيق الأهداف وليست غايات بحد ذاتها، إنما تشرف هـذه الوسائل بشرف غاياتها وتقصد للحصول على قدر
[ ص: 33 ] أكبر من تحقيق تلك الغايات التي يقصر عنها الجهد الفردي فتكون الجماعة ويكون التجمع وتكون القيادة.
وبالتالي فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنقلب هـذه الوسائل إلى غايات بحد ذاتها وإنما يجب أن تبقى وسائل محكوما عليها بمقدار ما تحقق من الغايات التي سبقت الإلماحة إليها وهي تحقيق العبودية لله تعالى والفوز برضاه.
فليست غاية الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي بصوره المختلفة الأساسية، الوصول إلى الحكم والسلطة بأشخاصه وبمختلف الطرق الشرعية وغير الشرعية وينتهي الأمر، وإنما الحكم بحد ذاته لا يعدو في نظر المسلم أن يكون من وسائل تحقيق معنى العبودية ونشر الدعوة وحمايتها في مدى أوسع ومساحة أشمل؛ ذلك أن المهم في نظر المسلم أن تتحقق المعاني التي يريدها الإسلام، وليس المهم أن يحكم أشخاص أو جماعات بأعيانهم.
ومن هـنا يفترق منهج العمل الإسلامي عن المناهج الأرضية كافة التي تنحصر أهدافها وتتحقق عند الوصول إلى السلطة وتكون أقصى غاياتها الاحتفاظ بها وتقسيم الغنائم على الأنصار لضمان ولائهم ودعمهم وعبوديتهم. لأنهم أصحاب المصلحة الحقيقية في الحكم والثورة كما يسمونهم، ومطاردة الخصوم لأنهم مكمن الخطر الدائب على ما حصلوا عليه من مكاسب شخصية، أما العمل الإسلامي فيتابع سيره وتلقى على عاتقه مسئوليات جديدة ويتسع معنى تحقيق العبودية ويعظم التكليف. قال تعالى:
( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج: 41) .
إنها الأمانة والمسئولية التي تبدأ بعد الحكم وليس الاسترخاء والقعود عن أداء تلك الأمانة.
والمسلم كفرد والمسلمون كجماعة مطلوب إليهم دائما أن يكونوا في مستوى إسلامهم بناء؛ استجابة لخطاب التكليف، وفي مستوى عصرهم فهما وحركة وإدراكا لطبيعة المتغيرات التي لا تتوقف عند حد لتكون وسائلهم في العمل الإسلامي في مستوى العصر.
[ ص: 34 ]
وإن الهاجس الدائم للمسلم الحق الذي يورث الفاعلية التي لا تنطفئ محاولة ارتياد آفاق أفضل، والحصول على نتائج أشمل، وامتلاك وسائل أكثر تطورا وجدوى في مجال الدعوة إلى الله.
إن القعود عن التفكير بالتغيير والاستسلام لواقع الحال بسبب من الفهم القاصر للقضية الإسلامية والجمود على الوسائل المعروفة والوقوف عندها والاكتفاء بها وإعطائها صفة القداسة قضية أقل ما يقال عنها: أنها تنافي الخلود لهذا الدين ومخاطبة الناس على قدر عقولهم ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، إنه القبول بالواقع الإسلامي الذي لا نحسد عليه والذي بات لا يرضي إلا المنتفعين به بشكل أو بآخر، إن قبولنا بالصورة التي يقوم عليها الواقع الإسلامي الآن يعني التوقف حيث تتبدل مواقع الأفراد والجماعات في المجتمع الحاضر بين يوم وآخر، تبعا لتبدل الوسائل وطرق المواجهة.
إن وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وعناوينه التي أصبحت عند بعضهم دينا لا يمكن تجاوزه إنما هـي أمور اجتهادية تخضع لقانون التغيير والاستبدال وليست لها صفة القداسة والثبات، ذلك أن الأهداف الإسلامية من الثوابت، والوسائل لتحقيق هـذه الأهداف من المتغيرات؛ بشرط واحد أن تكون أوعية هـذه الوسائل شرعية ومحكومة بضوابط الشريعة أيضا فالغاية لا تبرر الوسيلة، الأمر الذي بدأ يتسلل إلى بعض النفوس بسبب من الاجتهاد المريض والرؤية القاصرة.
ويمكن أن تكون لبعض الوسائل جدوى في عصر معين، وقد تكون إنما جاءت استجابة لمواجهة مشكلات معينة في مجتمع له ظروفه واهتماماته.
أما وقد تبدل الزمان وتغيرت المشكلات وصورة المجتمع؛ فإن الجمود على وسائل بعينها في العمل وعدم القدرة على تجاوزها إنما هـو حرب في غير معركة، وانتصار بغير عدو، ويخشى أن يكون مضيعة للعمر والأجر معا.
لا بد أن تكون عمليات المراجعة وإعادة النظر دائمة على ضوء المستجدات ولا بد من الاستمرار باتهام أنفسنا بالتقصير عن إدراك الصور المثلى، ويبقى شعارنا أن عدم تحقيق النتائج هـو بسبب منا:
( قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران: 165) .
ومن يظن أنه علم فقد جهل، فالعمل الإسلامي مدعو دائما لتغيير مواقعه
[ ص: 35 ] التي تصبح عاجزة عن مواكبة الحياة إلى مواقع جديدة أكثر فاعلية على ضوء الإمكانات المتوفرة والفرص المتاحة، وتجديد وسائله واستبدالها لتكون القدرة على العطاء في كل الظروف والأحوال.