من المواقع الدفاعية إلى المواقف الفاعلة
إن الدفاع عن النفس المسلمة وصيانتها إنما هـو في حقيقته وسيلة لتكون قادرة على عطاء معين من نوع آخر.. إلى جانب أهمية التحديد الدقيق لمعركة الدفاع ومساحتها ووسائلها، الأمر الذي يجوز له أن يستغرق جهودنا ويستنفد طاقاتنا، فإن المواقف الدفاعية والاستمرار في مواقع الفكر الدفاعي لا تعني تقدما ولا بصارة بالأمور، ولا شمولية في الرؤية، وإنما تعني مراوحة في المكان الواحد ولو بذل كل الجهد، وتعني عجزا في تقدير الأمور ودراسة نتائجها، إنها تعني انفعالا ولا تعني فعلا، تعني إثارة ولا تعني ثورة تغييرية للواقع غير الإسلامي، قد تعني شدة بالصرعة لكنها لا تعني أبدا ضبط النفس عند الغضب، ومن ثم حسن التصرف واختيار الموقع الفاعل، وعدم استنزاف الطاقة والقدرة على التحكم..
[ ص: 58 ]
إن الاستمرار في حالة الدفاع يجعل الزمام في يد أعداء الإسلام والمسلمين، ويبقى التحكم بالمعركة في صالحهم زمانا ومكانا ومضمونا، فيكون الاستنزاف، ويكون الإنهاك، ويتحقق الاستهلاك، وقد يتقن العدو اللعبة فيحسن إثارة المشكلات في الوقت المناسب ويتحكم بمسار المسلمين الفكري والكتابي..
وقد يلجئهم إلى مواقع يضطرون معها إلى بعض الممارسات التي هـي محل نظر ابتداء من الناحية الشرعية تحت شعار: الضرورات تبيح المحظورات؛ وبذلك نقع في أزمة الفكر المنكوس ألا وهو: الاحتكام إلى النتائج والالتزام بها دون القدرة على مناقشة المقدمات التي أدت إليها، أو نبصر المقدمات الخاطئة بعد أن نسقط في النتائج حيث لا يفيد الندم والبكاء على الأطلال..
فإلى متى نفتقد زمام المبادرة في الطرح، ونستمر في معالجة رد ومواجهة ما يطرح على ساحتنا، ونعجز عن الطرح؟! وإلى أي مدى يجب أن تبلغ المعركة الدفاعية التي كثيرا ما تكون خطة ذكية تصرفنا عن معالجة قضايانا الأصلية فنبقى نراوح في مكاننا، خاصة عندما ينحصر جهدنا في استرداد المعارك القديمة والدخول فيها بعد أن استنفدت جهدنا ولا تزال، وقد يكون ما قدم إليها فيه الكفاية، كقضية العامية والمرأة وتحديد النسل والحجاب والسفور.. وقد أشبعها أسلافنا بحثا ودرسـا، وردت على أعقابها؟!
إن المعركة التي دارت بين
طه حسين والرافعي ما تزال مستمرة إلى اليوم، وما يزال كثيرون منا يعانون من عقدة طه حسين!!، والمفروض أن تكون قد انتهت ولم يبق منها إلا القيمة التاريخية.. وبذلك نكون قد ساهمنا شئنا أم أبينا، ومن حيث ندري أو لا ندري بصقل خصومنا، وعملقة أعدائنا وتكبيرهم لكثرة ما عاودنا مناقشة أفكارهم وتجديدها، الأمر الذي بناها وصلبها، وكأننا ما زلنا نحس بالغلبة في داخلنا، وكثيرا ما تواطأ أعداء الإسلام في الخفاء على اصطناع وإثارة قضايا ومشكلات، وطرح مؤلفات انتهى الرأي فيها تاريخيا، وهم لا يزالون يبعثونها من مرقدها ليصرفوا جهد العاملين للإسلام إليها، وتكون فرصة لهم لتوظيف هـذا لإنهاك عدوهم الذي يعارضون؛ وكثيرا ما اصطنعت المعارضات السياسية غير الإسلامية قضايا في المعاهد والمدارس والجامعات في العالم الإسلامي لإثارة دعاة الإسلام، ومن ثم توظيف رفضهم وإدانتهم لأغراض سياسية ينهكون بها عدوهم، أو يثيرونهم باتجاه
[ ص: 59 ] قضية جزئية ليمرروا ما يشاءون من أمور كبرى تتعلق بأمن البلاد وحياة العباد، وقد تتطور الأمور أكثر فأكثر لتصبح الدماء الإسلامية محلا لتصفية الحسابات الدولية.. إن الكثير من القضايا غير الإسلامية تصفى اليوم في عالم المسلمين على حساب الدماء المسلمة، فهل نعيد النظر في حساباتنا ودراسة معاركنا وجدواها، ونضع استراتيجية صحيحة لمعركتنا، وننتقل من معركة تحقيق الذات إلى مرحلة تفتيش الذات وتقويم الذات، قال تعالى:
( بل الإنسان على نفسه بصيرة *
ولو ألقى معاذيره ) (القيامة: 14، 15)
[شعبان: 1404هـ - أيار (مايو) : 1984م]
[ ص: 60 ]