صناعة التطرف
وما يزالون وراء هـذه القضية يجندون لها الكتاب والصحفيين، والدبلوماسيين والسياسيين ويستنفرون لها أتباعهم من كتاب وصحف ومجلات، ويضعون المظاهر الشاذة منها تحت المجاهر يوجهون إليها الأنظار ويغرون بها، وقد تكون إلى حد بعيد من صنعهم، حتى أصبحت مشكلة مطروحة ذات أبعاد ودلالات لا بد من مواجهتها، تفرد لها الملفات ويستدعى لها الكتاب والمفكرون، وتحدد لهم مسبقا الجوانب التي يعالجونها والمساحات المطلوب إليهم التحرك فيها، وهنا نرى أيضا أن بعض الكتاب والمفكرين أخضعوا لمحاضر تحقيق، لكن من نوع آخر، هـي سلطة بعض رجال الصحافة بأسئلتهم المحددة، وليست سلطات الأمن، لوضعهم في موضع آخر من مواقع الفكر الدفاعي.. وكم كانت الدهشة كبيرة عندما سألت أحدهم، وهو عالم فاضل ثقة ذو فقه ودراية: لماذا لم تعرض لأسباب المشكلة وأنت من أدرى الناس بذلك؟ فقال: هـذا الجانب الذي طلب مني معالجته، وأعتذر إلي عن الوجه الآخر بحجة أنه أنيط بغيري!!
وأصبح التطرف الديني مصطلحا شائع الاستخدام في وسائل الإعلام، وعلى ألسنة الناس، وكثيرا ما يستخدم بهدف إيجاد حالة من الرعب والإرهاب الفكري لشل حركة الدعوة إلى الله التي تخضع لمعايير منضبطة مشروعة من الله عز وجل لا يد للإنسان فيها.. والأمر المستغرب حقا أن هـذا الاصطلاح استعمل [ ص: 68 ] أول ما استعمل في (إسرائيل) عندما بدأ الشباب المسلم في الأرض المحتلة يعي ذاته بعد أن أخفقت التجمعات الشيوعية ومن يدور في فلكها من أن تقدم شيئا للقضية، والتي لم تخرج في حقيقتها عن وسيلة من وسائل يهود لامتصاص النقمة وتنفيس الطاقات للحيلولة دون انفجارها، والتسلل من خلالها إلى العالم العربي، من هـنا بدأت توجهات الشباب من جديد لتلمس الشخصية الحضارية للأمة والعودة إلى المسجد..
فالإسلام دين التوسط والاعتدال، ولا شك عندنا أن الغلو والتطرف أمر مرفوض شرعا، ومهما كانت المبررات والأسباب، وليس من الإسلام، وهو ظاهرة أصيب بها أتباع الأديان السابقة وكانت سبب دمارهم، وهي من علل المتدينين التي قصها الله علينا ليحذرنا منها فلا نقع بما وقع فيه غيرنا من الغلو والتطرف والتحريف والتأويل الفاسد وما إلى ذلك..
ونحن لا ننكر أيضا أن الغلو والتطرف يمكن أن يتسرب إلى بعض جوانب الحياة الإسلامية، ومن السهل على الناظر في التاريخ الإسلامي أن يتعرف أن فترات الرفض والتطرف والخروج هـي رءوس الفتن ذات النقاط السود في تاريخنا التي أنهكت الأمة، وشلت قواها، وشغلتها عن عدوها، وعن متابعة رسالتها الإنسانية، لكن المشروعية العليا في حياة المسلم كانت دائما للكتاب والسنة، وهما المعيار الدقيق والمقياس المنضبط الذي يجب أن يحكم الأمور.. كل الأمور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) فالذي يحكم على السلوك هـو الإسلام وليست الأمزجة الشخصية.
والمشكلة الخطيرة الآن، والتي قد تزيد الأمور سوءا: أننا نحاول معالجة آثار الظاهرة ولا ننظر في أسبابها، إلا لمسات خفيفة قد لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا شك أن تنقية الواقع الثقافي للجيل المسلم وترشيده، والأخذ بيده لالتزام المقياس الإسلامي في الحكم على الأشياء ضرورة وعهدة شرعية من العلماء العدول الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
( يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين.. ) وكلمة (العدول) هـنا ذات دلالة واضحة، فالذي يتصدى لعملية مواجهة [ ص: 69 ] التطرف والغلو هـم العلماء العدول والذين هـم موضع ثقة من حيث العلم، ومن حيث الغيرة الإسلامية، والذين لهم من سلوكهم وجهادهم ما يؤهلهم لحمل العلم ونفي الانحراف، وليس الكتاب الذين يعوزهم الحد الأدنى من الفكر والسلوك الإسلامي، والذين يقيمون من أنفسهم أوصياء على الحياة الإسلامية، ولا (بعض علماء الدين الرسميين) لأنهم يتكلمون ويصدرون الأحكام، ويطبقون في هـذه القضايا قانون السير ذي الاتجاه الواحد، ولا يرون إلا بعين واحدة، فالانحراف والظلم والقمع ومصادرة الحريات لا يقولون فيه كلمة، ولا يأمرون بمعروف أو ينهون عن منكر، ولا يسمعون إلا من طرف واحد، وينطلقون غالبا في معالجاتهم، ويشكلون قناعاتهم من محاضر تحقيق سلطات الأمن، فكيف يستطيعون تقويم اعوجاج أو معالجة قضية تعتبر من أخطر القضايا، ومن أوائل الشروط لمعالجتها نزع أزمة الثقة.. وتقوى الله في التناول.
والأمر الخطير حقا هـو أن عقدة التطرف الديني هـذه تسللت إلى أجواء الدعوة الإسلامية، تشل حركتها، وتشكك بوسائلها، وتحيطها بجو من الإرهاب لتحنطها وتعطل مسارها والأمر الأخطر أيضا هـو التراجع إلى مواقع الدفاع الذي أصاب كثيرا منا، وأصبح ما يطرحه الأعداء مسلمات غير قابلة للنقاش لشل الذهن وإنهاك القوى، والتحكم بالمسارات العقلية والنشاطات الثقافية، والتخويف من الدعوة الإسلامية، فإلى متى نتوقف عند مرحلة (درء المفاسد) ولا تأخذ مرحلة (جلب المصالح) المساحة المطلوبة في حياتنا الإسلامية؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[جمادى الآخرة: 1402هـ - نيسان (ابريل) : 1982م] [ ص: 70 ]
التالي
السابق