المنزلق الخطير
ولسنا الآن ونحن في هـذه العجالة بسبيل أن نستوفي الكلام عن أهمية اللغات الأخرى، ومدى فائدتها وضرورتها، لكن الذي يعنينا هـو الكلام عن المنزلق الخطير، الذي تزداد خطورته يوما بعد يوم، والذي أصبحت ملامحه واضحة في حياتنا، وصورة مكرسة ومألوفة في عالم المسلمين اليوم، وخطورة هـذا الأمر أنه لا يقتصر على العوام من المسلمين والبسطاء والسذج والأميين، وإنما يتجاوزهم إلى بعض المؤسسات الإسلامية، أو مؤسسات التعليم الإسلامي، وبعض القيادات الإسلامية، وكثير ممن نذروا أنفسهم ليكونوا دعاة إسلاميين يسيرون على ميراث النبوة، ويحملون دعوة الإسلام إلى البشرية.
[ ص: 102 ]
هذا المنزلق الخطير والشر المستطير الذي ينذر بسوء العواقب، ويبتعد بنا شيئا فشيئا عن الأصول، هـو اكتفاء بعض دعاة الإسلام، وبعض القائمين على المؤسسات الإسلامية، من العربية بحفظ سورة الفاتحة وسورة أو سورتين من قصار السور يؤدون بها صلاتهم، وفيما وراء ذلك يتعرفون على الإسلام والعقيدة الإسلامية من بعض الكتب المترجمة إلى اللغات الأخرى، كالفرنسية والإنجليزية وغيرها من اللغات..
ونحن لا نريد هـنا أن نحط من قدر هـذه المؤلفات المترجمة عن الإسلام إلى اللغات العالمية، ولا نقلل من أهميتها وقيمتها وفائدتها وآثارها الكبيرة والكثيرة جدا في التعريف بالإسلام والمسلمين، فمن ذا الذي يستطيع أن ينكر الآثار الكبيرة والفوائد العظيمة التي تركتها كتب
الأستاذ المودودي وغيره رحمهم الله ؟! ولكن الذي نريد إيضاحه عدة أمور:
إن هـذه المترجمات يمكن قبولها ابتداء للتعريف بالإسلام والمسلمين، لأنها تمنح الصورة الإسلامية، وتغري بالبحث والمتابعة، وتقود المسلم إلى التعرف على الإسلام من منابعه الأولى، وفهمه من خلال لسانه ومعهود العرب في الخطاب ودلالات الألفاظ كما هـي بالعربية.. نقول: إن هـذه المترجمات يمكن أن تقبل ابتداء لتقود إلى ما بعدها، وإن رضينا باستمرارها فيمكن أن يكون ذلك في مجال بسطاء المسلمين من غير العرب الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالتحصيل والمتابعة، أما أن يقبل دعاة الإسلام والقائمون على شأن بعض المؤسسات الإسلامية بهذه الحال، وأن تكون معرفتهم الإسلامية وثقافتهم الإسلامية عن طريق هـذه المترجمات عن الإسلام، فهنا تكمن الخطورة.. ذلك أن الترجمة مهما كانت دقيقة ومعبرة لا يمكن أن تعطي الصورة الصحيحة الدقيقة لمدلولات الألفاظ في لغة أخرى، لها اصطلاحاتها، ولها استعمالاتها، ولها أوعيتها المرنة ومترادفاتها الغنية، ولها مجازاتها واستعارتها وكناياتها ،.. حيث لا تتسع لذلك لغة أخرى مهما كانت المحاولة جادة وأمينة وصادقة، ناهيك عن ثقافة المترجم وفهمه لمدلولات الخطاب الإلهي ومدى تأثره والمداخلة التي يمكن أن تتم خلال كل العوامل النفسية والثقافية المكونة لشخصيته الفكرية.. والله تعالى يقول:
( إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) (يوسف: 2) ويقول:
( بلسان عربي [ ص: 103 ] مبين ) (الشعراء: 195) . فطريق معرفته لا يمكن أن تتأتي إلا من خلال معهود العرب في الخطاب ولغة العرب أيضا.. فإذا كان العلماء المحققون والباحثون الجادون اليوم، على مستوى اللغة نفسها، يحاولون تجاوز فهوم أبناء اللغة نفسها، ويعودون للبحث عن الأصول والمخطوطات، يعودون للمعاجم لدراسة مدلولات الألفاظ، ويدرسون أيضا رسم الخطوط ليتمكنوا من القراءة وليصلوا إلى الصورة الحقيقية والمدلولات الدقيقة للوحي الإلهي، ولنص الكتب والمعاهدات والمقررات والعقائد والأديان، فما بالنا نحن المسلمين، وعلى مستوى القيادات، نرى أنه بالإمكان أن نكون مسلمين، وأن يكون فهمنا للإسلام من خلال التصور الذي رسمته لنا الكتب المترجمة ...