الرؤية الإسلامية لقضية الهجرة
والقضية التي نريد لها أن تكون واضحة ابتداء: أن الهجرة تعني أول ما تعني معرفة الحق، ومن ثم الارتحال إليه، والالتزام به والثبات عليه، وهي طريق الرسل والذين يسيرون على دربهم، وثمرة الإيمان الطبيعية، التي تقتضي التحرك به، وموقع من مواقع الصراع الدائب بين المؤمنين بقيادة الرسل والكافرين بمناهجهم التي يقف على رأس كل منها شيطان، ونسارع هـنا إلى التأكيد: بأن الهجرة في الإسلام حركة إيجابية جهادية تمثل قمة الفاعلية والحركة على أرض المعركة الدائرة بين الإسلام الذي موطنه الدنيا كلها والكفر، ولا تند عن ذلك الهجرة للقيام بتكاليف البلاغ المبين كمسئولية منوطة بالمسلم كما قدمنا، وليست الهجرة بالمفهوم الإسلامي حركة سلبية انسحابية من المعركة هـروبية من الموقع، يؤثر صاحبها السلامة ويختار طريق الدنيا، فإن حصل ذلك لفترة ضعف، أو سقوط أو عجز رؤية، أو غلبة دنيا، فهجرته إلى ما هـاجر إليه وليست الهجرة الإسلامية، فالمهاجر في نظر الإسلام لا يزال في ساحة المعركة، وليس خارجا منها، ذلك أن المعركة قد تبلغ مرحلة معينة تقل معها الفاعلية على هـذا الثغر أو تكاد تنعدم فلا بد والحالة هـذه من اختيار موقع آخر فاعل أو أكثر فاعلية، لا بد من وجود الرؤية والقدرة على التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، إنه تغيير الموقع وليس الانسحاب من المعركة على كل حال، وليس تولية الدبر، والتولي عن المواجهة الموقع في غضب الله قال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار *
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) (الأنفال: 16 - 17) .
وليس هـذا وحسب، وإنما قد تنتهي المعركة إلى مصلحة الإسلام والمسلمين؛
[ ص: 129 ] فلا يعني ذلك الانكفاء والأنانية والاسترخاء، وعدم التطلع إلى مواقع أخرى لما تحرر بعد، ولما تصل إليها دعوة الله بعد، والمسلم مسئول عنها
( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) (البقرة: 193) فلا بد من الانتقال والهجرة إليها وحمل دين الله إلى الإنسانية الحائرة، ولعلنا نلمح ذلك في سبب نزول قوله تعالى:
( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (البقرة: 195) ذلك أن الله اعتبر القعود عن نشر الدعوة والهجرة إلى ذلك رغم الانتصار في الموقع الحالي موقع في التهلكة. أخرج
أبو داود والترمذي وصححه
وابن حبان والحاكم وغيرهم عن
أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال:
( نزلت هـذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها.. فأنزل الله يرد علينا ما قلنا.. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وترك الجهاد. )
وفي رواية أخرى: قال
الليث بن سعد عن
يزيد بن أبي حبيب ، عن
أسلم أبي عمران قال:
( حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية. إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره؛ حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال، والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيها؛ فنزل فينا: ( .. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.. ) (البقرة: 195) فكانت التهلكة في الإقامة وترك الجهاد ) [رواه أبو داود والترمذي
والنسائي وغيرهم].
والهجرة في المفهوم الإسلامي جهاد، وقد تكون من أعلى أنواع الجهاد. قال تعالى بشأن الذين تقاعسوا عن الهجرة إلى المدينة:
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة: 24) .
[ ص: 130 ]
وهذه الآية إنما نزلت فيمن آثر القعود وانشد إليه عن الهجرة والجهاد. ويمكننا أن نقول باطمئنان بأنه لولا الهجرات الإسلامية في القديم والحديث لما استقر الإسلام في كثير من بلدان العالم ووصل إليها، ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن بعض بلاد أفريقيا فتحت أكثر من مرة، ولم يستقر الإسلام فيها إلا بالهجرة إليها والاستيطان هـناك.